Comments ( 0 )
كلمة نقيب المحامين في بيروت، الأستاذ جورج جريج، في حفل إحياء ذكرى الأستاذ أرنست كرم
شرف لي مثلّث،
فهو محامٍ زميل،
وهو ترأس الرابطة المارونيّة في أحلك الظروف المسيحيّة واللبنانيّة،
وهو سليل العائلة الكرَمية التي أعطت لبنان رجالات من القماش الجيّد، والنوع الفاخر، والصنف النادر.
لا أنسى ارنست كرم الذي حاول أن ينطلق من تحصين الساحة المسيحيّة، ايذانًا بحصانة لبنانيّة تكون قادرة على التعامل بندّيّة مع كلّ الظروف، وتحديدًا مع أيّ وجود سلطويّ غريب على أرض الوطن.
كان لبنانيًّا بكلّ ما أوتي من عنفوان. مسيحيًّا بكلّ ما أوتي من إيمان، وذات مرّة انسحب من مهرجان رسمي في الخرطوم احتجاجًا على قول أحد الخطباء إن الإنكليز بنوا من رمال بلادنا كنائس الذلّ والعار.
نصف قرن من حياته قضاها عاملًا في مصنع الوطن، وأجيرًا دون أجر في مجتمع أراده عيشًا راقيًا بين كلّ الجماعات.
اشتغل للوطن أكثر ممّا اشتغل في السياسة، فكان من الوجوه التي لا تغيب، ولو أنّ غرف الليل غيّبته عن فوز مستحق في انتخابات عام 1960 النيابيّة.
أدرك الصعوبات في لبنان، وكان يردّد دائمًا ما قاله له الرئيس فؤاد شهاب من أنّ حكم لبنان أصعب من حكم أعظم دولتين في العالم، الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفياتيّ.
ولم يجد حرجًا في البوح بما يضيق به صدره ويزعج فكره. وذات يوم، وفي بكركي بالذات، سأله الرئيس الياس الهراوي عن صحّة الخبر بأنّه رفض أن يجدّد له في رئاسة الرابطة المارونيّة، فلم يتوان في الجواب: فخامة الرئيس، أنت تجدّد عنّا جميعًا.
وانتفض للأرز عندما قال الرئيس نبيه برّي لمزارعي التبغ الجنوبيّين أنّ شتلة التبغ هذه عنوان لبنان وعلمه، رغم أنّ الرئيس برّي كان يعتبر على طريقته، عن تضامنه مع أهالي الجنوب في رزقهم وحياتهم المعيشيّة.
وأرنست كرم لبناني عروبيّ، ويوم فاجأهم في مركز الرابطة زائر اسرائيليّ جاء مهدّدًا وطالبًا من الرابطة الضغط على الرئيس أمين الجميّل الذي رفض استقبال الوزير الاسرائيليّ ارنز، قال للزائر أنّ الرئيس الجميّل ثابت في موقفه، وآل الجميّل عروبيّون.
كان يعتبر نفسه محاميًا غير ممارس كلّيًّا، وقد اعتذر غير مرّة لهذا الاعتبار عن الترشّح لمركز نقيب للمحامين.
ولم يخل ارنست كرم من روح الدعابة، ففي انتخابات 1960، كان ضمن لائحة ضمّته إلى ادوار حنين ومحمود عمّار وبشير الأعور وعبدو صعب، والأخير كان مصرفيًّا ورجل أعمال، ولم يكن يتقن فنّ الخطابة ويجهل القواعد العربيّة، الأمر الذي أزعج الخطيب المفوّه ادوار حنين، فاتّفق على أن يذهب بشير الأعور وأرنست كرم للقاء الشيخ بيار الجميّل والطلب منه انتداب أحد الخطباء الكتائبيّين ليتولّى إلقاء الكلمات بدلًا من عبدو صعب. فما كان من الشيخ بيار إلّا أن قال لهما، أنا أقوم بالواجب وأحلّ خطيبًا مكان عبدو صعب. ثمّ أوفد الأستاذ إدمون رزق والأستاذ رشاد سلامة، ويقول ارنست كرم إنّهما غطّيا على أعضاء اللائحة، فاستاء مجدّدًا ادوار حنين وقال: "ليتنا استبقينا عبدو".
فأجابه ارنست: أتيت بالدبّ إلى كرمك.
السيّدات والسادة:
ارنست كرم، ابن الحدث، بلدة الصمود في الزمن الصعب، ومدينة العطاء والضيافة في كلّ الظروف، عاش المارونيّة فكان فعلاً ابن الحدث، وعاش المسيحيّة فكان مشرقيًّا، وعاش لبنان فكان الوطنيّ الكبير، والزميل الكبير في وطن كبير.
ارنست بك أرضيّ وعلوي ّفي آن،
حمى لبنان واحتمى فيه،
نمّى لبنان وانتمى إليه،
روى لبنان وارتوى منه.
وكم لبنان بحاجة إلى جماعات تعتنقه، وتلتزمه، وتعتمره وتفديه.
ارنست بك كان أحد هؤلاء.
ارنست كرم اختار الابتعاد قبل أسبوعين من وقوع المحظور، وانتهاك الدستور، وابتلاء لبنان بالفراغ والشغور.
اختار دنيا الآخرة قبل حصول المكروه باستبدال الانتخاب بالتمديد لمجلس النواب.
اختار الاعتكاف، فالقبر أفضل ملاذًا من جنّة نخرها الفساد، وطالها مِعوَل الهدم، ولفظ القدر لا القضاء حكمه العجيب في هذا الزمن الغريب.
وكأنّي به اليوم يقول: لا توقظوني، فأنا مرتاح في مكاني. لكن دقّوا بابي يوم تعود الديمقراطيّة، ووزّعوا الحلوى يوم تنقذ الرئاسة، واقرعوا الطبول يوم ينجو لبنان.
عشتم وعاش لبنان.
****************************
