التبويبات الأساسية

الأب ألبير شرفان الحَدَثيّ الأنطونيّ...حَنينُ الرّاهب الى الموسيقى

الأب ألبير شرفان الحَدَثيّ الأنطونيّ...حَنينُ الرّاهب الى الموسيقى

الأب ألبير شرفان الحَدَثيّ الأنطونيّ...حَنينُ الرّاهب الى الموسيقى

بقلم : الدكتور جورج شبلي

رَوت ملحمةُ جلجامش تفسيراً للموت الرَعّاب، وهو نهايةُ كلّ حَيّ، أنّ البطلَ المذهولَ أمامَ موت رفيقه، يَهرعُ الى البَحث عن النَّبتة التي تَهِب البقاء والخلود، علَّها تُعيدُ رفيقه إلى الحياة، وبعد أن وجدها سُرعانَ ما تُسلَب منه، فيضيع بذلك كلّ أَمل بالبَعث. من هنا، فطعامُ الخلود لا يُقَدَّم لِمَخلوق، لكنّ تَعِسَ الطّالع هذا، بما فيه من قَسوةِ قَدَر، يُؤذِنُ لنتاجاتِ المواهِب أن تُجاوزَ إشعاعاتُها عناصرَ الموت، فتُكَوِّنَ عاملَ حضارةٍ لا يخبو مع الزَّمن.

الأب ألبير شرفان الحدثيّ الأنطونيّ، وكأنّ وراءَه أَلفَ إلهٍ حيّ، كما يذكرُ الكِتاب. لقد طلبَ الموهبةَ فاستجابَت، فأوجبَ الإحتفالَ بِثِمارها ولكن بِلغةٍ ليتورجيّة، فلم يأمر ينابيعَ الزَّهوِ بالفَيضان، ولم يَسُق جواهرَه الى متاهاتِ الأضواء اعتداداً، فخطا في عشقِ الظلّ شَوطاً قيمتُهُ أَبلغُ من تَكاثُف النُّور. لقد سَرَّح عينيه في مَعالِمِ الكون، فوقعَ حبُّه في أسرار الماوراء، حيثُ لا يمرُّ بِبالٍ خاطِرُ المادّة، وحيثُ الدَّهرُ كلُّه تاريخُ ميلاد، وحيثُ الكلامُ مُستَوفٍ لا يُحتاجُ الى سِواه. فالترهُّبُ، مع الأب ألبير، إصباحٌ مُستَغنٍ بنفسه عن كلّ شمس، أو هو جلوسٌ دائمٌ الى مأدُبةٍ فردَوسيّة، أو هو تلقيحُ الذّاتِ بنِعمةِ الله.

هذا الرَّاهبُ المــُتَبَرِّكُ من سنابلِ فيضِ الله، هذا الذي يبعثُ دِفئاً في المــُهَجِ فتُخصِبَ وكأنّها تزوَّجت من إله، تَلَمَّسَ ما هُيِّئَ له من شُعاع سعادة، وأَحسنَ فَكَّ رموزه. وقد انصبَّ على تَسليكِ نفسه بِدَربِ التألّقِ في التَرَهُّبِ والموسيقى، اللَّذَين فَنى فيهما فناءً تاماً، وكلاهما من ثروةٍ واحدة، فالترهّبُ مشاهَدةٌ لنُقوش السّماء، والموسيقى صياغةٌ لحقائقها. لم يكن الأب ألبير حَرفاً ساكِناً في كلّ ذلك، بل كان على صِلَةٍ وثيقة بِقائمةِ المــُبدِعين من دون مَشاقِّ بحث، فلم يُكتَب إسمُه على صفيحةٍ من فَخّار لتُكسَرَ بسهولة، لكنّه كُتِبَ بِخطوطٍ مُثَلَّثَة تُكَوِّنُ زاويةً تَحتفظُ بالبَقاء.

هذا الرّاهبُ المـــُتَبَتِّل رُزِقَ من العِلم وجودةِ القريحةِ ما طَمأَنه على أمنيتِه، هذه التي عاش في حِماها، وبَسَطَ فيها جُهدَه بَسطاً وافياً، فذاقَ حلاوةَ تَحَقُّقِها. لقد رعاها لتولَد بخلقةٍ بَهيّة، وقَدَّر لها ضُروبَ وجودِها وعِدَّةَ انتقالِها من القوّة الى الفِعل، وراعى عوارضَها لكي لا يَلحقَها فُتورٌ أو نُحول. والأمنيةُ المــُـتأصِّلةُ في نفسه، لم تكن سوى سلوكيّةٍ مُحَبَّبة في الفنّ الموسيقيّ، هذا الذي كان مَفتوناً به فأَغرقَ في درس علومه من دون أن يَضيقَ به صَدراً، فكان معه نَصلاً عجائبيّاً كلَّما طُعِنَ به سَلُم.
والموسيقى أدبٌ تَسبيحيّ صاغَه الأب ألبير بالنَّغمة والإيقاع، وهذا لا يقعُ إلاّ مع المَشغوفين بالنَّغَم، تَميدُ بهم ألوانُه، ويسري فيهم منه إقبالٌ على التَّنقيب عن أسراره، فيُطلِعوا نتاجاتٍ هي مَراجعُ كريمةُ الصِّيتِ في ثقافة الموسيقى. أمّا الصّيغةُ النّغَمية التي يجعلها الأب ألبير تختال بين مقامات المزامير، فتنقلنا الى ضِفاف مدارس السُّريان بين دِجلة والفُرات، فنرى ظِلَّ مار إفرام يعبرُنا بنقّاراته. ويحضرُني، في هذا المجال، ما قالَه القاصِدُ الرسوليّ الذي كان من مَلافنةِ الدّين والموسيقى، متوجِّهاً الى الأب ألبير، بعد حضوره حَفلاً ترتيلياً لجَوقة المعهد بمُرافقة عازِفي الكونسرفاتوار الوطنيّ، بما معناه " أَمزاميرٌ هي هذه التي سَمِعنا، أم عُقودٌ من الدُرّ ".
لقد رسمَ "الأبونا" مُعجمَه الموسيقيّ الكنائسيّ وميازينَه الجَمالية من مِقدار إيمانه وسليمِ ذَوقه، وعَجَمَ فيه أوتارَ الألحان من اشتقاقِ أنفاسِه، فجاءَت مُصنَّفاتُه وفيها من ضياء الحِسّ ما يصلُحُ للإكتفاء به. فمَذهب الأب ألبير النيوسُريانيّ في طائفته اللَّحنيّة، نزهةٌ مَزموريّة على خُطى يسوع الذي "هلَّلَت دموعُه إليه". وهو يُفصحُ عمّا في ذاته من تَيَقُّظٍ فَرِحٍ بالتَّهليل لله، بترنيماتٍ دينيّة وَرِعَة نَشَّطَت الطَّابع الموسيقيّ الكَنَسيّ الأصيل بالجَوقاتِ والإحتفالات الدينيّة. ومع أنّ الأب ألبير حائزٌ على دراساتٍ مُعَمَّقة في الفلسفة واللّاهوت، لكنّه آثَرَ تدريسَ الموسيقى وتأليفَ الجَوقات التَرتيليّة، كما اهتمَّ بنشر ثراثِ الأب بولس الأشقر الأنطونيّ بإعادة نشر مُؤَلَّفه "المزامير مُلَحَّنة". الأب ألبير، "عظَّمَت نفسُه الربّ" بالوَتَر، ورَجَتهُ أنْ "أَعطِنا خُبزَك" بفوَّهاتِ الآلات المضمومةِ إلى الصُّدور، فلم يكنُ ابتهالُها أبداً " صوتاً صارخاً في البرِّية"، كيفَ ذلك و" اللهُ محبَّة ".

إنّ كلفِ الأب ألبير بالحدث، وهو نهايةُ النُّبل، حقَّق إجماعاً لا يُتَّهَم بمَثيله، وقد أتاه يومَ شُكِّلَ الى المعهد الأنطونيّ وتولّى رئاستَه ومَناصِبَ أخرى. والرئيسُ بمواصفاتِ الصَّلَف والكبرياء والعُجب، لم نلمحه يوماً في أبونا ألبير الذي اجتنى في سلوكه ثِمار التَّواضع والخدمة. فالأب المـــُتَوَقِّدُ الخواطر واللَّطيفُ الخلق، لم يتوانَ عن بَذل قُصارى جهده في إعانة مَن يستحقّون أن يتابعوا الدراسة، ولم يكن ذلك عنده المطلَبَ العسير، كما أنّه لم يُشغَل بالإعلان عنه. ولو كان الأب ألبير حاضراً بيننا اليوم، وهذا ما ننتظرُه، لَكان يُؤاخَذُ على الذي يفعلُه، وخصوصاً من أبناء جِلدته.

يا أبونا ألبير، أيّها المغَيَّبُ السّاكنُ فينا، أنتَ مَغبونُ الحالتَين ونحنُ معكَ مَصدومون، فكفايتُك في التَّلحين الموسيقيّ الأوركيسترالي هانَ قَدْرُها اليوم مع الذين كان من واجبهم الإعتناءُ بها، فهُدِمَت وكأنّها لم تكن، فالتَّخليدُ استمرارٌ وليس مناسباتٍ ظَرفيّة. وخُطوبُ الدَّهر التي خطفَتك بلُذوعيّةٍ مكروهَة، لم تُشبَع إلاّ حَذلَقَةً ووعوداً أينَ منها وعودُ عرقوب، فقد فَقَأَ المسؤولون عندنا في عَينِ هذا حُصرُمةً في التَّسويفِ والإدّعاءات، ولما يزالوا. عُدْ إلينا، أبونا، ليستردّ الترهُّبُ ما له من وَطيدِ القيمة والتَّكرُمة، وتميلَ بالموسيقى، ولا سيّما الكَنَسيّة منها، سُنَّةُ الصِّبا فتنقادَ بنا إليها أريحيّةُ العشق والفرح.

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment