التبويبات الأساسية

الأب يوسف الشدياق الحَدَثي الأنطوني...المــُدَبِّرُ النَّشيط

الأب يوسف الشدياق الحَدَثي الأنطوني...المــُدَبِّرُ النَّشيط

الأب يوسف الشدياق الحَدَثي الأنطوني...المــُدَبِّرُ النَّشيط

بقلم : الدكتور جورج شبلي

ليس من الحَتمِ أن تَنبُوَ الطِّباعُ عن الدّنيا، وترفعَ في وجهِها الحُجُب. فمَعارضُ الإمتاع لها تَمامُ الصلاحيّةِ لأن تكونَ أساساً لحياة النّاس، وأن تَظهرَ فيها كلَّ الظُّهور. لكنّ الزّهد بغَدائرِ الحياة، وغَمضَ العَين عن ألوانها، موقفٌ مأثور لمــِن كانت نفسُه نادرةَ المِثال. فبدلاً من أن تَشتبكَ العواطفُ مع لَواحظ الدَّهر، تعقدُ اشتباكَها مع عظَمة الله، ويكون ذلك فَتحَاً عظيماً.
لم يكن القَدَر حاجزاً بين الشَّاب يوسف الشدياق ودَعوَة الله، فقد رمى يوسف بنفسه بين يَدَي القُدرة وقال للربّ: فَلتَكُن مَشيئتُك. وتحتَ جُنحِ العَصر، كانت مُناجاةٌ بسطَ فيها يوسف قلبَه المشتاقَ الى الله، ففاضَت عليه النِّعمةُ رِفقاً وكأنَّه يُستَقبَلُ في ضَحَواتِ الرَّبيع. والكهنوتُ، مع بونا يوسف، أَذهَبُ في مَسالك حياته، لأنه يُقيمُ رابِطَ محبّة مع الكَمال في المحبّة، هذه التي أَودَعها واسطةَ قلبه واتَّخذها دِيناً وخَليقة. وكأنّه قد خالَصَ ربَّه بالقول: " أنا لا أَحولُ عن عَهدِك، وإن حالَتِ النّجومُ عن مَسارِها"، وفي ذلك التزامٌ مَشهود بأن يكونَ صَدرُه وِعاءَ وِدٍّ لله، وعقلُه ناشِراً لِفَضلِه، وضميرُه وَقفاً على عَهدِه، وهذه هي فِعلاً النُّذورُ الرَّهبانيّة.
استراحاتُ المـُدَبِّر يوسف، وهذه كِنيةٌ لازَمَته بعدَ تَوَلّيه المسؤوليّة في الرهبانيّة الأنطونيّة، كانت جَذبَ نفسِه صوبَ التَّلاقي مع وَجنَةِ الخالِق، ودرسَ الكُتُب. من هنا الجَدِيَّةُ التي غاصَ في ثَوبَيها، فقد قَوِيَ على تكاليفِ مَن وَثِقَ به واستمعَ إليهِ طائعاً، وقدَّمَ له حياتَه بِكرَ التَّقدماتِ على مَذبحِه، وكذلك كانت له اندفاعةٌ بارِعة نحو صُنوف الإبداع وعيون ما تركَه الأوّلون، فلم تكن قراءاتُه هوايةً لكنّها اطمِئنانٌ الى المعرفة، كما كهنوتُه. وفي الثّقافة، وهي مملكةُ الفِكر، لم يَرتَوِ المــُدَبِّر عن ناسٍ مجهولين، بل من مَشايِخِ التأليف الذين حُفِظَ لهم إسمٌ في دليلِ الكِبار، وهذه عَينُ النَّجابة، لذلك لا يُمكنُ اتِّهامُ افتعالِه اختلاقَ المعارف.
في أعطاف حياته، تَمالَحَ المــُدَبِّرُ النَّظيفُ الأثواب مع الثّقافة ورحَّب بها، فكانت زادَه الثاني بعد ارتوائه من نعمة الله. وفي الكثرة والقِلّة، كان افتنانُه في الكُتُب والتآليف لا يَشبع، فأمعنَ في دقيقها وجَليلها إمعانَ الكَيِّس في سَعيِه والرَّشيدِ في أمره، ففازَ بمُراده من ذخائر حَسَنتها. والثقافةُ دواءُ العباقرة والضّالِعين من العِلم، لذا ادَّخرَ منها المـــُدَبِّر العتاد، فصيَّرته بها أوثَقَ بُنياناً وأقوى أساساً، لذا برع في التأليف والتَّنقيح والتَّعريب. لقد عمدَ إلى شراء مطبعة، ساهمت في إصدار مجلّة " كوكب البريّة "، وكان ذلك في الرّبع الأول من القرن الماضي، حيث كانت غالبيّةُ دُوَل الجِوار لا تزالُ في انحطاطٍ مَشهود، في حين كانت المطبعةُ آنذاك تُعتَبَرُ عاملاً أساسيّاً من عوامل النَّهضة في المشرق العربي. وكذلك، ترك المــُدَبِّرُ البَصيرُ بصناعة الكتابة مجموعةً من الكتب المــُتنَوِّعة الموضوعات، ذاتِ اللفظ الموَنَّق والعِبارة المصيبة، ومن أبرزِها كتابا "الشاب التَّائه" و "مار أشَعيا"، وكتاب " عرف العرفان في مديح السّلوان " الذي جمع فيه مُتقادمَ المنظوم والمنثور في أدبيّات التَّهنئة التي وثَّقَتها لُغاتُ العربِ والسّريان والفَرَنسيس. أمّا المقالات الأدبيّة والسياسيّة في مَجَلَّتَي "الرّاصِد" و "العاصفة"، فكانت تَخزنُ في دواخلها ما تعبقُ به نفسُ المــُدَبِّر من رُسوخٍ في المعرفة ورُجولةٍ في الوطنيّة.
حياتُه شهيدةٌ بدِقَّة فَهمه وحلاوةِ كلمتِه، والجوانبُ التي اتَّكأَت عليها شخصيّتُه تدلُّ على ما تُحسِنُ هذه الشخصية من قوّة فِعلٍ وعَذبِ روحٍ وجودةِ كَرَم، ما جعلَه لا يُماشي مَن يظنّون أنّ المادة تبلغُهم في آخر أمرهم. فلَو جاءَه سائلٌ ولم يكن عندَه غيرُ جُبَّتِه لأعطاه الجُبَّة، وكأنّه يقول في مَعرِض النُّصح: لن نَنالَ البِرَّ حتى نُنفِقَ ما نُحِبّ. من هنا، لم يكن مُقِلاّ في الخدمة، فما تحتَ أعيُنِنا من إنجازاتِه جِدٌّ صِراح. لقد كان المــُدَبِّر الشدياق المــُنشِئَ الأوّل لمدرسة مار يوسف التابعة لدَير مار أنطونيوس في بعبدا/ الحدث، بعد أن قام بترميم الدَّير وتجهيزه. أمّا عينُه على المشاريع فلم تغمض، فشَمَّرَ عن ساعِدَيه وعملَ على نَقبِ الأرض فحوَّلَها من بُورٍ الى حَيِّزٍ صالحٍ للزراعة، وأمرَ بِحَفر ناعورةٍ للمياه في محيط الأنطونية/ حارة البُطم، ساهم جَرُّ مائها في رَيِّ الأراضي القريبة، كما أنّ سِقايةَ النّاس بماء الشَّفَة، حفَّزَته على استجرار مياه نبع عَين الدِّلبِة. هذه المشاريعُ التَّنمويّة ساهمت في توظيفِ أصحاب الأرض بالأرض، وأَضرَمَت نار تَعلُّقهم بها، وهذا تَثميرٌ لوطنيّة هذا الرَّاهب، ما نفتقدُه في الغالبية العُظمى من المسؤولين عندنا، والذين يستجِرّون تَصفيقَنا من دون أن نستجِرَّ اهتمامَهم بنا.
المدبِّر يوسف الشدياق، هذا السَّقفُ المــُقَبَّبُ الذي يستدعي التَّبجيل، لا يَحتملُ الخُسرانَ بعيداً عن ربِّه، وهو المغمورُ القلبِ بِشُكره واللسانِ بِذِكره، وقد فاضَ فيه حبُّه فناجاه مُناجاةَ صلاة: رَبّي، إنّ كثيرَ ما ابتدأتُ به من القَول بِفَضلِك، يَقِلُّ عمّا عندي من الشَّوقِ إليك.

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment