التبويبات الأساسية

ميشال شيحا

ميشال شيحا

ميشال شيحا الأبّ الروحيّ للدستور اللبنانيّ
إذا كانت الأوطان والشعوب والأُمم تقوم وتختصر برجالات يتحوّلون إلى رموز نشأتها وتطوّرها، وأبطال انتصاراتها بتوحيد الأرض أو جمع الشمل المتعدّد في منظومة موحّدة حول قوميّة عصبيّة أو عصبيّة دينيّة، فتشاد لهم أقواس النصر، لتمّر من تحتها العصور والأجيال، أو ترفع لهم الأنصاب فوق الأبراج والقباب يعطيها تقادم الأيّام هيبة مع تآكل صخرها أو تلوّن معدنها بمشحة صدئة. فإن ميشال شيحا هو برجنا الثقافيّ والإنسانيّ والفكريّ والخُلقيّ في بناء دولة الاستقلال، ومهندس القضيّة اللبنانيّة في صيغة تشاركيّة بين أقليّات تحترم خصوصيّاتها، وتلتقي جميعها حول جوهر لبنان، موطنًا للحريّات.
قيل عنه وفيه الكثير، فبعضهم رأى فيه عرّاب الدستور ودولة لبنان الكبير وأحد أبرز منظّري القوميّة اللبنانيّة، فيما اعتبره آخرون أحد أبرز بُناة الكيان اللبنانيّ وأحد أهم مؤسّسِي الدولة اللبنانيّة ومناضل وطنيّ لم يجد نفسه يومًا خارج لبنان. آمن بسِحر الكلمة وتأثيرها البالغ في العقول والنفوس وأيقن سِرَّ قوّة الصحافة المكتوبة وسلطتها ودورها على صعيد بناء الأوطان، فاختار الصحافة اليوميّة ليعبّرِ من خلالها عن آرائه. أصدر صحيفة لوجور بالفرنسيّة في العام 1937، واتَّخذ من صفحتها الأولى منبرًا حرًّا لمقالاته الافتتاحيّة التوجيهيّة، حيث كان يجدّدِ يوميّاً فعل إيمانه بلبنان. وقد نجح في الارتقاء بمهنة الصحافة إلى مستوى الروائع الأدبيّة والفكر الفلسفيّ والرسالة المناقبيّة. وهو القائل في مقالة له بتاريخ 21 آذار 1944 وتحت عنوان الكتابات النثريّة اليوميّة: "لا بأس أن نحدّث قراء صحيفة يوميّة عن أهم المواضيع. فثمَّة اعتقاد خاطئ سيّء يحصر اهتمام القارئ بالأمور العاديّة العارضة. ومجرَّد التسليم بهذا الحكم المسبق فيه إهانة للمواطنين ويسبّبِ إفقار الجميع على صعيد المعرفة".
إنّه ميشال شيحا الأب الروحيّ للدستور اللبنانيّ والمفكّر السياسيّ والاقتصاديّ الذي ما زال صدى أفكاره وأعماله يتردّد حتّى يومنا هذا.

البدايات
ولد ميشال شيحا عام 1891 في بلدة مكين في قضاء عاليه، وتابع دراسته الابتدائيّة والثانويّة في مدرسة الآباء اليسوعيّين في بيروت واستكملها في جامعة القدّيس يوسف. كان كثير الأسفار وخصوصًا إلى انكلترا حيث أجرى تدريبًا في دار تجاريّ في مانشستر. عام 1907، انضمّ إلى أخواله آل فرعون في بيروت فعمل معهم في بنك فرعون وشيحا الذي أسّسه والده أنطوان عام 1876.
بدأ ميشال شيحا نشاطه الفكريّ والوطنيّ عندما هاجر إبّان حرب 1914، مع الكثيرين من أترابه، إلى الإسكندرية فالتحق فيها بمدرسة الحقوق وأصدر في الوقت ذاته جريدة نصف شهريّة باسم ''Ebauches ''إيبوش لشرح القضيّة اللبنانيّة ومتابعتها. وكانت في هذه الأثناء قد تألّفت ثلاث مجموعات في العالم لدعم القضيّة اللبنانيّة والدفاع عنها: مجموعة في القاهرة ضمّت يوسف السودا وبشارة الخوري وداود عمون وإميل اده وألفرد نقاش وأمين الجميل وميشال شيحا وسواهم ... ومجموعة في باريس ضمّت شكري غانم وشارل دباس وخيرلله خيرلله وسواهم، ومجموعة في نيويورك ضمّت الأُخوة مكرزل وإيليا أبو ماضي ومخائيل نعيمه وجبران خليل جبران وسواهم... عملوا بالتنسيق فيما بينهم وبقوّة أقلامهم وتأثيراتهم الفاعلة في محيطهم الثقافيّ والأدبيّ والسياسيّ، في سبيل هدف واحد: استقلال لبنان.

لبنان الكبير
في العام 1918 أنشأ مع شارل قرم وإيلي تيان وهكتور خلاط مجلّة وكان اسمها برنامج عمل لها يتناول الفكرة اللبنانيّة '' Phénicie '' فينيقيا بجذورها القديمة وعهودها الحديثة، في الأدب والاقتصاد والسياسة، وأولوا اهتمامًا خاصًّا بالآثار مع الأب موتارد وموريس دونان وموريس شهاب، وانشأوا في بيروت مركزًا للآثار العالميّة كان أكثر أهمّيّة من مراكز باريس ولندن ونيويورك.
في 21 تشرين الثاني 1919، وصل الجنرال هنري غورو إلى بيروت قائدًا أعلى للجيش ومفوّضًا ساميًّا في سوريا ولبنان. وخلال تلك الفترة، نشأت بين ميشال شيحا والمعاون الأوّل للجنرال غورو روبير دوكه علاقات وثيقة وقويّة. فقد كان هذا الأخير مهندس معظم التدابير العامّة المتّخذة في تلك الفترة الحاسمة من فترات الانتداب الفرنسيّ. وقد دارت بينه وبين ميشال شيحا محادثات طويلة ومنتظمة تناولت مختلف الجوانب ذات الصلة بلبنان بما فيها علاقات الجوار مع سوريا، وقد كان لها الأثر الهام في إعلان دولة لبنان الكبير وترسيم حدودها وإنشاء أولى مؤسّساتها.
وفي مقال نُشر في 1 أيلول 1921 في جريدة Le Réveil حمل عنوان "قرارات وأفعال"، بمناسبة الذكرى الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، دعا ميشال شيحا إلى "الاحتفال بالاستقلال بقرارات وأفعال. فلمدّة طويلة دخلنا في جدالات عقيمة، وقد ولّى زمن الكلام". وأضاف: "فلننتقل إلى العمل كما يجب أن يفعل الرجال الأحرار الذين يدركون مسؤوليّاتهم. نحن نتمتع بالذكاء، لكننا نفتقر إلى الطريقة والنظام. فنحن نرى الهدف بوضوح، لكننا لا نسلك الطريق الذي يقود إلى تحقيقه، مما يضعنا في تناقض مع أنفسنا. إن ذكاءنا يعمل في الفوضى، لأننا نفتقر غالباً إلى روحيّة المتابعة والإرادة. فالذكاء غير المنظّم يجعل الحكومة عاجزة عن فرض طاعتها. نحن نقول دائمًا إنّنا نريد التقدّم، وهذه رغبة نقدّرها، وكلّ شيء يمكن أن يسير على ما يرام إن كان الكلام وحده كافيًا. لكنّ الكلام يبقى مجّردًا من القوّة إن كانت الإرادة غائبة. إنّ تقدّم بلد يعني مثالاً أعلى، ودمج المصالح الخاصّة بالمصلحة العامّة، وهو مرادف لذلك النشاط الابتكاريّ الذي يزدري الطرق المسلوكة كثيراً للبحث بلا كلل عن سبل جديدة. دعونا نستبدل الأنانيّة التي هي حب الذات بالطاقة التي هي الثقة في الذات. دعونا نستخرج من ترابنا كلّ ما يعطينا إيّاه قبل أن نلجأ إلى الأجنبيّ. فلنصبح منتجين بدلاً من أن نكون وسطاء. ودعونا نضع فوق كلّ شيء حبّ الوطن مع كلّ ما يتضمنه من واجبات وفضائل. دعونا نحتفل باستقلالنا بقرارات وأفعال".

النيابة والدستور
عام 1925، انخرط ميشال شيحا في الحياة السياسيّة ففاز في الانتخابات عن مقعد بيروت للأقليّات في مواجهة المرشّح أيّوب تابت. وقد تردّد شيحا طويلًا قبل ترشيح نفسه لكنّه بادر في نهاية المطاف إلى اتّخاذ قرار إيجابيّ في هذا الخصوص بتشجيع وإصرار من صديقيه عمر بيهم وعمر الداعوق، ففازت اللائحة بكاملها بالرغم من المعارضة الشخصيّة للجنرال موريس سيراي، المفوّض السامي الفرنسيّ في تلك الفترة.
جمع ميشال شيحا من الأعوام الأربعة التي قضاها في الحياة النيابيّة تجربةً غنيّةً وواسعة". ونشرت جريدة ''المعرض الأسبوعيّة'' في 21 أيلول 1931 أنّ ميشال شيحا خَبِر السياسة البرلمانيّة طوال 4 سنوات فسَئِم وجوهها وأخذه الغضب على تلوّنها ولما ألحّ عليه اصدقاؤه في ترشّحه لدورة 1929 قال إنّه لا يستطيع أن يُغالب مجرى النهر ولا يريد ان ينقلبَ مع كلّ ريح ويسير في كلّ طريق. ولكن ظروفًا خطيرة أوجبت عليه ان يظلّ على الكرسي... وكانت الأنظار شاخصة إليه في الانتخاب المقبل لرئاسة الجمهوريّة، إلّا أنّه صرف طرفه حتّى عن هذا المنصب الجليل.

لكن توقّفه عن نشاطه البرلمانيّ لم يمنعه من الاستمرار من وقت إلى آخر في تأدية بعض المهام المحدّدة المرتبطة بالشأن العام. فقد ساهم على سبيل المثال عام 1946 في إقامة العلاقات الديبلوماسيّة مع الفاتيكان. وبموازاة ذلك، انصرف إلى اهتماماته الشخصيّة فمارس نشاطًا سياسيًّا من خلال كتابة الافتتاحيّات في جريدة Le Jour بعدما دفعته أسباب مختلفة ذات صلة بالحياة السياسيّة الداخليّة في العامين 1933 و 1934 إلى الخروج عن صمته وإلى نشر معطيات وتحليلات مهمّة عن الواقع اللبنانيّ. وقد نشر ميشال شيحا منذ عهد الاستقلال وحتّى مماته آلاف المقالات في جريدة Le Jour مُضيئًا على جوانب مختلفة من فكره السياسيّ من خلال أسلوبه الجدليّ الصارم وقريحته الصحافيّة.
شارك ميشال شيحا إلى جانب بترو طراد وعمر الداعوق في لجنة ثلاثيّة سنة 1926 أوكلت إليها مهمّة وضع مسودّة الدستور. والجدير ذكره في هذا السياق أنّ محفوظات ميشال شيحا تحتوي على المسودّة الأصليّة للدستور اللبنانيّ ومختلف التصحيحات المطبوعة على ثلاث مراحل.
كان مقرّر اللجنة اللبنانيّة لوضع الدستور مع البرلمانيّ القدير شبل دموس. يذكر خليل رامز سركيس في كتابه ''الهواجس الأَقليّة'' شيئًا عن مُضادةٍ شَجَر أمرُها بين شيحا وبيهُم في مجلس العُمَرين، كما يقال عن البرلمان الذي يضم عُمَر بَيْهُم وعُمَر داعوق، وذلك أنّه في أثناء التباحث النيابيّ في بعض مواد الدستور احتدّت المناقشة بين بيهم وشيحا، وكان شيحا يغرّب وبيهم يشرّقِ، وإذ احتدّت المناقشة واتّسعت شِقّةَ الخلاف انسحب الرجلان إلى غرفة مجاورة في خلوةِ مُصارحةٍ طويلة كان فيها للحكمة وسلامة الحِسّ الشعبيّ فصلُ القول والفعل. في لحظةٍ من لحظات الوعي ويقظة الضمير والشعور بالتَبِعات أدرك النائبان أن ما يجمع أهلَ البلد الواحد أهمّ مما يفرّقِهم، وكان مما قال بيهم لشيحا: "اذا نحن اختلفنا فمن يتّفق بعدنا؟ ألا تسري العدوى إلى سواد الشعب، لا غنى لنا عن التفاهم او نُخرّب البلاد. الخاسرُ هو الرّابح في بلدٍ مُتَعدّد الطوائف مثل لبنان". ثم عاد الرجلان إلى الجلسة وقد تفاهما، فأُعلِن الاتّفاق على الدستور وعُيّشِ الوفاق. وعلُم فيما بعد، يضيف سركيس، أنّ شيحا، مع رهافته اللاتينيّة كان أصلب موقفًا من بَيهُم في خلوة المصارحة تلك.

وبعد التعديلات، أعطى الدستور صلاحيّات واسعة لرئيس الجمهوريّة بمبادرة ودفع من ميشال شيحا الذي اعتبر أن تركيبة لبنان تفترض وجود سلطة قويّة وثابتة ممثّلة بشخص رئيس الجمهوريّة. من هنا أُعطيت لرئيس الدولة صلاحيّات واسعة. لكن في المقابل، وحرصًا منه على إبقاء رئيس الدولة مترفّعًا عن إغراءات السلطة والمنفعة الشخصيّة، أورد في الدستور مادةً لجهة عدم جواز تجديد ولاية رئيس الجمهوريّة عند انقضاء مدّتها. كما أتت الشروط الخاصّة بالإجراءات والنصاب المطلوبة لإعادة النظر في الدستور وليدة الهواجس ذاتها ألّا وهي عدم المساس بالدستور قدر المستطاع أو أقلّه إبقاؤه منزّهًا عن الظروف والأوضاع السائدة في البلاد. وقد قاده مبدؤه هذا إلى توجيه انتقاد لاذع للتعديل الدستوريّ الذي تمّ بموجبه تجديد ولاية الرئيس بشارة الخوري التي لم يُكتب لها الاستمرار أكثر من ثلاثة أعوام بعدما أنهتها "ثورة بيضاء"، وذلك رغم قربه وقرابته للرئيس الأوّل في عهد الاستقلال.

العلم اللبنانيّ والندوة اللبنانيّة
بعد الاستقلال، قررت مجموعة من النواب اللبنانيّين الألوان الجديدة للعلم اللبنانيّ. وقد شارك ميشال شيحا، في اختيارها من منظاري الرمزيّة والجماليّة، وكان حريصًا على أن يكون الأحمر في العلم اللبنانيّ بلون الأرجوان المستخرج من المُرّيق في صور والذي ازدانت به ثياب شيوخ روما في القدم.
أما الندوة اللبنانيّة التي أسّسها ميشال أسمر في عام 1946 لتكون ملتقى لجميع اللبنانيّين و"تعبيراً عن ضمير لبنان"، فقد كان لميشال شيحا إسهامات كبيرة فيها من خلال محاضرات نذكر بعض عناوينها مثل "قيم" و "العالم اليوم" و "لبنان في العالم، آفاق المستقبل" و "وجود لبنان".

الفيلسوف والرؤيوي
كان ميشال شيحا فيلسوفًا ورؤيويًّا، ففي كتابيه "الخواطر 1" و"الخواطر 2" جمع نتاجه الفكريّ في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وفي "أفكار حول المتوسّط" سلّط الضوء على منطقة المتوسط ودورها السياسيّ في العالم. وقد قال عنه الرئيس الراحل شارل حلو في مقدّمة هذا الكتاب: “بالنسبة إلى ميشال شيحا، إنّ منطقة المتوسّط التي نحن جزء منها ليست فقط قلب العالم القديم. إنّها مهد وملتقى قيم الحضارات التي تستحقّ أن تنتشر في أنحاء المعمورة كافة. على أصعدة الجغرافيا والتاريخ والثقافة والسياسة أو حتّى على صعيد الإستراتيجيّة، يمثّل المتوسّط وحدة… ميشال شيحا الحارس الغيور الساهر على الحقيقة، يرحّب بأي تحرّك أو كلام (مبادرة دبلوماسيّة، زيارة رسميّة، إعلان، مقالة صحافيّة) – ويعيد التأكيد على ما يدافع عنه من بنية المنطقة ورسمها وحدودها".
وعن كتاب "لبنان في شخصيّته وحضوره" الذي تُرجم إلى اللغة العربيّة، قال ميشال أسمر: "نجد في النصّ الأصليّ الفرنسيّ خلاصة أفكار هذا المحاضر حول الإنسان والوجود ونظرته إلى الحاضر اللبنانيّ ومستقبله من وحي معرفة الماضي الذي يرقى إلى ستّة آلاف سنة من حيث التاريخ والجغرافيا والشعب والانفتاح على العالم".
وفي كتاب "فلسطين" مجموعة كبيرة من المقالات لميشال شيحا عن فلسطين وقضيّتها، واستشراف لمستقبل وقعت أحداثه كما توقّعها شيحا.
وفي كتاب "السياسة الداخليّة"، رأى شيحا أن "لبنان هو دولة عريقة بدروس الماضي القويّة التي يمكن اتّخاذها قاعدة. فبالرغم من بعض الفروقات الظاهرة، إن لبنانييّ اليوم هم ذاتهم لبنانيّو الأمس وقد لا نتمكّن من تغيير مجرى الأحداث ما لم نثابر على تجاوز المخاطر من خلال فعل متجدّد من الإرادة والجرأة والإيمان... تقضي مهمّتنا الأولى بأن نصون في بلادنا ما للحريّة والروحانيّة والتسامح والاستقلال من وجه نيّر وعذب ونبيل".
أمّا في كتابه "منزل الحقول" فيقول: " الشعر أكثر خلودًا من أيّ إمبراطوريّة. تلك هي قوّة الروح. وقد لا تحيا ذكرى الأجيال الغابرة سوى في قصيدة. إنّ القوّة التي يضعها عصرنا هذا في خدمة العلم لا بدّ وأن يُسخّر جزء منها في خدمة الشعر. وبالشعر نعني سموّ الروح الذي يكرّسه تناغم اللغة".
وفي كتاب "ترتيل كنسيّ" الذي يحمل أيضًا عنوان "أقوال أحدية"، نشهد على البعد الروحيّ لميشال شيحا. أمّا في "الاقتصاد اللبنانيّ" فنتعرّف إلى الرؤية الاقتصاديّة الثاقبة لميشال شيحا، إذ يقول إنّ "الذكاء هو رأسمال اللبنانيّين الأوّل على صعيدي الاقتصاد والماليّة وليس المال. إنّه ذكاء المبادرة وسرعتها. مستحيل أن نطارد سراب الجنون وأن نفرض رأسمال كهذا من دون اعتدال أقصى. أيّ رجل مال لبنانيّ يجهل أنّ تسعة لبنانيّين من أصل عشرة يعيشون فوق إمكانيّاتهم الماديّة باعتمادهم على إمكانيّاتهم الفكريّة".

موسوعيّ المعرفة
ميشال شيحا موسوعيّ المعرفة، بَليغُ القلم، ما ساعده على التطرّق إلى مواضيع متنوّعِة قد تبدو متناقضة ولكنها تلتقي حول بلوغ هدف واحد، ألا وهو الرفع من شأن الوطن والدفع به في مدارج التقدّم والتطوّر. وقد وجَدَ شيحا في المقالة القصيرة قالبًا ونوعًا أدبيًّا مناسبًا مكَّنه من طرح أفكاره النيّرِة ومعالجة جميع القضايا التي أراد من خلالها بثّ روح "الإيدلوجيّة اللبنانيّة المعاصِرة " فكتب في السياسة الداخليّة والخارجيّة، في الاقتصاد والمال، في القانون والدستور، في الفلسفة والروحانيّات. ولكن شيحا المحاضِر اللّامع والمصرفيّ الذي أوحى بتأسيس بورصة بيروت والصّحِافيّ المبدِع والنائب الجريء، كان شاعرًا في الوقت عينه.
آمن شيحا بأن العِلم والشِّعر توأمان لا ينفصلان. وقد قال في مقالة "حَول الشِّعر" في السابع من كانون الأول1943 : " الشِّعر قبل أي شيء آخر ليس ثمَّة أهمّ منه، ولا أشدّ ضرورة في هذا الوقت. فالقبح يغمر وجه الأرض كالبرص". ويضيف: " فما عسى يكون حالنا بلا الشِّعر الذي هو صلاة، الذي هو موسيقى، الذي هو جمال، الذي هو حبّ، الذي هو عقل، الذي هو نور!" والشعر الحقيقي كما يُحّدِده شيحا هو". التوافق بين نغم الأصوات ونغم المشاعر والصور والأفكار، وائتلاف لا يُنتظر، ونشوة تعمّ الكائن كله. إن قرنًا من الزمان لا شِعر فيه لَهو قرنٌ ضائع، وحضارة لا شِعر فيه فيها لمصيبة عالميّة" وهذا ما يفسّر إعجابه "بباسكال" الذي كان عالِماً في الرياضيّات والفيزياء وفيلسوفًا مفكرًا وشاعرًا في الوقت عينه.
وقد اتّبع ميشال شيحا منهجيّةَ علميّةَ لإبراز شخصيّة لبنان وحضوره ودَوره في العالم. فارتكز في مقالاته على الحقائق والوقائع التاريخّية والثوابت الجغرافيّة وأسُس الأنثروبولوجيا والسوسيو _ثقافة التي من خلالِها رسَم سِمات الشخصيّة اللبنانيّة الفريدة وخصوصيّتها. فلبنان بلدٌ صغير في الجغرافية والديمغرافيا ولا يمكنه أن يعوّضِ عن ذلك إلا بالنوعية والوحدة وهو القائل: "البلدان الصغرى تعرف من نوعيّة الرجال الكبار" وإذا كان الالتزام يعني النضال في سبيل قضيّة معيّنة والدفاع عنها فشيحا التزم بالقضايا اللبنانيّة التزامًا مطلقًا. فكان يُضيء على الحَدَث المحلّي أو العربيّ أو العالميّ ثمّ يحلّل ويعلّل ويستنتج تأثيره وتداعيّاته في الوضع اللبنانيّ، فغَدَت مقالاته دروسًا وأمثولات قيّمِة في مجالات الاقتصاد والسياسة الداخليّة والخارجيّة واحترام الدستور والقوانين وبناء المؤسّسات وحبّ الوطن وهو القائل: "في ظلّ دستور كدستورنا هو أحد اشدّ دساتير العالم تكريسًا لقوّة السلطة، إراديّ بقدر ما هو ديمقراطيّ، الحكم يكون رهن إرادة الرجال لا ملاحة القوانين" ويؤّكد شيحا: "يهمّنا أن يتجهَّز لبنان، وتُشاد فيه العمارات الجميلة، وتُشَق الطرق الوسيعة الطويلة، وتصبح في متناوله كلّ مظاهر التقدّم الماديّ ولكن ما يهمّنا أكثر من ذلك أن يكون في لبنان إنسان". ويبدو جليّاً تعلّقه بالأرض فيقول: "يجب علينا التشبّث بالتراب وردّ الاعتبار للأرض وأن نحبّ الفلاّح ونحّب معه الأشجار ومياه الينابيع والحقل والبستان. يجب علينا أن نغمس نفوسنا في عظمة هذه الطبيعة التي تحرّمِ علينا الصِغارات". وفي مقالة عنوانها حبّ الوطن يقول شيحا: "إن حبّ الوطن، كما قيل لنا سِتّ مرّات، واجبٌ علينا؛ بل ضرورة تكوينيّة بنوع ما. لأنّ أبهج المناظر، حيثما كانت لا تعزينا في بعدنا عن أرواح جدودنا الحامية لنا؛ ويا ما أفظع عقاب إنسان بنَفيهِ عن وطنه!"
وبقي ميشال شيحا، على مدى خمسة وثلاثين عامًا يثابر على العمل متحلّيًا بإرادة صلبة وقوّة هادئة ورَصينة، فاستحقَّ لقب أبٍ للفكرة اللبنانويّة. (Le libanisme) فكان يطلق النداءات، يوجّهِ التحذيرات، يعطي التوجيهات والإشارات، يستخلص الأمثولات، انطلاقًا من الحدث اليوميّ العابر وصولاً إلى المبدأ العام والعبرة الفلسفيّة الثابتة. وقد تميّزت خواطِره القائمة على الاختصار، بوضوح الرؤية ودقّةَ الملاحظة وحسن التعليل وقوّة المنطق وحضور البديهة. ففي 27 نيسان 1948 كتب شيحا مقالة تحت عنوان "سياسة على قياس العالم" كان مدخلها: "يُسرع التحرّك الذي قد يؤول إلى ولادة أوروبا متّحَدة".
مسيرةٌ إعلاميّةٌ طويلة لشخصيّةَ إعلاميّة فريدة ولِكاتبٍ شاهدٍ على عصره. فالعالَم مسرحٌ لمقالاته لكنّه قرّر أن يمتزج قدره مع قدر لبنان. عَشِق الوطن الصغير وكرّس قلمه للإضاءة على وجهه المشرِق ولِرَسم سِمات شخصّيته الفريدة، في الزمن الذي لم تكن معالِم الوطن واضحة بعد: "أن ما نَبنيه، رغم كل شيء، ليس فندقًا للمارّ ولا متجرًا للبائع، ولا مكتب جوازات سفر للمستوطِن وللمهاجر، بل للبنان اليوم وطنًا مضيافًا وإنسانيّاً".
لكن حبّه للبنان ليس شوڤينيّاً والاستقلال ليس تقوقعًا. فاللبنانيّون كسائر المتوسّطيين منفتحون على العالَم والمتوسّطِي عاشِقٌ للبحر، بنّاَء للسفن، مستعدٌ للإبحار في أي وقت، إلى الأماكن البعيدة. والبحر الأبيض المتوسّط " الشاهد على أوّل زورق وأوّل مِجذاف" فمن لبنان انطلق شيحا إلى رحاب الإنسانيّة. دافع عن الحريّة والعدالة والديمقراطيّة والسلام وعن كلّ القضايا المتّصلة بقِيم الحقّ والخير والجمال. فالفكر لا ينمو إلّا في أجواء الحرّية والمعرفة لا تستيقظ إلّا في ظلال الاستقرار. أمّا عن السياسة والتشريع فيقول شيحا: " ما من سياسة، مهما بلغ شأنها، إلّا وتُبنى على الأخلاق، وما من تشريع يقوى على البقاء إن لم تكن غايته سموّ الخُلق وتعزيز الكرامة الإنسانيّة".
أما سِرّ تألّق مقالاته فيعود إلى أسلوبه الجذاب. فقد صبّ ميشال شيحا مقالاته في قالب فنيّ مميّز ورفع المقالة الصحافيّة إلى مستوى الإبداع. ويقول ميخائيل نعيمة إن: "عدّة الأديب لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة" "إنها العدّة التي عمل بها شيحا. فأسلوبه يضاهي أسلوب الفلاسفة والمفكّرين الفرنسيّين الكبار. كما تميّزت مقالاته بالاختصار ووضوح السَرد ودقَّة الوصف ورَوعتِه. فعندما يَصِف الطبيعة اللبنانيّة، وبخاصة مناظر الجبل الخلاّبة تتحوّل المقالة إلى لوحة فنيّة ويصبح شيحا رسّامًا يتقن مزج الألوان ويعبّرِ عن أدقّ التفاصيل ويدعو القارئ إلى أحضان الطبيعة التي تُبَلسم الجراح وتبدّدِ الأحزان "عذبٌ كوعدٍ بالسعادة هذا الرُذاذ في نيسان يسقط من فضاء رماديّ فيه كوىً فسيحة زرقاء، فتفعل فينا نزوات الماء الأخيرة هذه فعل النشوة. الحديقة يغمُرها البَلَل... كلّ هذا يفوح شذاه في طبيعة مُثلى تُضفي علينا جوًّا من النعمة. كلّ فتنة هذا الربيع لا تُكتشف إلا بالدنوّ منه. ولا بدّ من الوقوف عند نافذته لكي تنجلي الرؤية. ولا بد ّمن الهبوط على دَرَجات الدرج العتيق المصدّع. لا بدّ من التقدّم على مهل في المسالك الصغيرة، مثل هذه العظاية السعيدة، المرصَّعة بالزمرد وهي لا تدري ما هو".
وتتميّزَ كتاباته اليوميّة بأناقة البيان والبلاغة في السرد والوصف والتعليق. إنه السهل الممتنع. سهولةٌ وعَفويّةَ، سَلاسةٌ ورِقّة. ألم يَقل ابن المقفع في البلاغة: "هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ نفسه يعمل مثلها"؟.
كما تستوقفنا عند شيحا مقالات تميل صَوْب الشِّعر. فهو شاعرٌ حقّاً في بعض ما كتب نثرًا. فلنستمع إليه في مقالة " الحديقة تحت المطر ": "ذلك إن هذه الطبيعة المبلّلَة لا تكتفي بإبهارنا، بل هي تحمل في باطنها بلاسِم وأسرارًا. هي تغمرنا بمفردات تنبع من الأصول، وببوادر شفقة تنتج الأدوية الفعّالة والمراهم العجيبة".

مسيرة حافلة
توفّي ميشال شيحا في 29 كانون الأول 1954، تاركًا وراءه أقوالاً وأعمالاً جعلته أحد أبرز أعلام النصف الأوّل من القرن العشرين في لبنان الذي قال فيه وعن شعبه: "لبنان بلد صغير جدًّا، طبعًا، وطن صغير، ربّما، لكن شعب صغير، أبدًا ".
ونختم هذا البحث المختصر عن ميشال شيحا بمقتطفات من مقال للكاتب والصحافيّ سمير عطالله نُشر في 12 كانون الثاني 2006 في النهار، قال فيه عن ميشال شيحا: "لم يتكوّن عقل ميشال شيحا، وتاليًا متسع فؤاده، من مجرد الجينات الموروثة. بل تعدّى ذلك، بالخروج من ثروته إلى محاكاة الفقر، ومن جاهه إلى مباسطة التواضع، ومن مسيحيّته المليئة بالشكوك الإيمانيّة العذبة، إلى القبول المطلق وغير المتردّد بالشراكة الإسلاميّة. ولم يطلب المجادلة. إنّه لا يعرض صفقة، ولا يطرح عقدًا تجاريًّا. لا يليق ذلك بالمؤسّسين. إنّه يطرح نفسه نموذجًا، ويرتجي أن يكون النموذج خليقًا بالتجاوب. إنّه لا يوجّه إلى الآخر فروضًا ولا بنودًا، بل هي مجرّد دعوة، تشرّف الداعي لا المدعو. المتواضع لا المستكبر".
( _ يراجع دراسة من إعداد وتنسيق: شادي يونس
المراجع: www.michelchiha.org، www.annahar.com، وإضافات شخصيّة
_ المجلة التربوية المركز التربوي للبحوث والإنماء رئيسة التحرير ميني الزعنّيِ كِلنْكْ _ ميشال شيحا الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954،
_ المجلة التربوية، ميشال شيحا فيلسوف الميثاق الوطني ومهندس النظام الحر، الأستاذ جورج سكاف نائب نقيب الصحافة اللبنانيّة)

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment