التبويبات الأساسية

مقال للمحامي أنطوان ألوف "بعلبكّ: المجد الضائع"

مقال للمحامي أنطوان ألوف  "بعلبكّ: المجد الضائع"

الاستكشافات: مغارة مدفنيّة بطول 3,9 أمتار وعرض 4,2 أمتار وارتفاع 1,9 متر ذات مدخل مسدود بحجرين مستطيلين بطول 1,6 متر وعرض 50 سنتيمترًا تُغطي أرضها طبقة طينيّة سوداء اللون تراوح سماكتها بين 10 و20 سنتيمترًا.

 

       من هذا المنطلق، ليس غريبًا على هذه المنطقة، تحديدًا، تلك الاكتشافات، وهي صاحبة التاريخ العريق الضارب أطنابه في جذور العصور السحيقة والذي شهد مرور عدّة حضارات استوطنت في ربوع تلك البقعة من سهل البقاع، فبات لزامًا عليها أن تُبقي على بصماتها شاهدًا حيًّا يؤكّد للعهود اللاحقة أنّ هذه الحضارات مرّت في هذا المكتشف، وما الإبداع في فنّ العمارة الّذي أبقت عليه تلك الحضارات في هذه البقعة من لبنان سوى خير دليل على عصر ذهبيّ عرفته هذه المنطقة العريقة في القدم.

 

       إنَّ وجود مقام النبيّ شيت بن آدم إلى جنوب مدينة بعلبكّ ببضعة أميال لهو أصدق دليل على وجود قديم الحياة فيها (تاريخ بعلبكّ للدكتور حسن عبّاس نصر الله، الصادر عن مؤسسة الوفاء بيروت – الطبعة الأولى 1984).

 

إنّ بعلبكّ الحاضرة تقوم فوق مدينة من المغاور والكهوف المدفونة تكشف عنها الحفريّات، وهي منتشرة في مساحة تفوق ثلاثة أضعاف مساحة المدينة المسوّرة، أمّا المغاور فمتباعدة، ونجدها في سفح الجبل الشرقيّ، أشهرها مغارة "الحوت"، إضافةً إلى كهوف حيّ الشميس، وأسفل الشير، ومغاور تلّة "الشيخ عبد الله"، وحيّ الوادي والبساتين والكيال والشراونة، علمًا أنّ هذه الأخيرة تتّصف بالاتّساع والعمق والتداخل.

 

       هذه المغاور قطنها القدماء، ودفنوا موتاهم في بعضها، وما هي سوى الدليل الثابت على أنّ الإنسان سكن بعلبكّ منذ فجر التاريخ قبل أن يحظى بتشييد المباني، إذ ذُكِرَ أنّهم "كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا، آمنين" (المرجع عينه). هذا، والبطريرك إسطفان الدويهي في كتابه "تاريخ الأزمنة" يقول " إنّ قلعة بعلبكّ في جبل لبنان هي أقدم من جميع ما بناه البشر في العالم بأسره، أعني أنّ قايين بن آدم عندما اعتراه الارتعاش أمر ببنائها سنة 133 من كون العالم ولقّبها باسم ابنه أخنوخ؛ أمّا الأب مارتين اليسوعيّ فيذكر في كتابه تاريخ لبنان " أنّ الشيكان أشمودي، كان مُؤسَّس بعلبكّ ومهندسَها "، في حين أنّ دايفيد هيركار يعتبر أنّ قلعة بعلبكّ بُنِيَت قبل الطوفان (ويقصد إلى ما قبل أيّام نوح)، لأنّ حجارة الهياكل نُقلت على ظهر البهموت الّذي انقرض من جرّاء الطوفان، وهو من جنس الفيل، لكنّه يكبره بعشرة أضعاف، وقد عُثر على عظامه الّتي باتت محفوظة في معاهد أوروبا وأميركا العلميّة على ما ذكر "يوسف مزهر" في كتابه تاريخ لبنان العام" 1998.

 

       هذا، واعتبر ديوورس الصقليّ، ونقلاً عن حوليّات الفينيقيّين أنّ "شيثا" "Seth" ابن إله الشمس والآلهة روديا ابنة نبتون مَن أسّس مدينة بعلبكّ، إكرامًا لوالده، ثمّ أقام فيها معبدًا يزينه تمثال لإله الشمس".

 

       وجاء في كتاب (الجغرافيّ اليونانيّ) المجهول الّذي نشره Gade Froy أنّ أجمل نساء آسيا نشأت في بعلبكّ، لأنّ فينوس ربّة الجمال القديم أشادت في هذه المدينة عرشها، وأشاعت فيه سحر الجمال، فلا عجب إن رأيت شموسًا تخطر في نواحيه".

 

       وتأكيدًا على صدق الروايات عن ماضي المدينة السحيق نورد أنّ بعلبك شاهدة على العهد الظراني أو الحجريّ الممتدّ من ستة آلاف إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، إذ إنّ البعلبكيّ الأوّل قاطن الكهوف اهتدى الى (الظر)، فصنع منه أدواته القاطعة، وسخّره لخدمته قبل اكتشاف الحديد. وقد استحضر منه الفؤوس والمكاشط واستعملها في الصيد وسلخ الحيوانات، طلبًا لجلودها وتوسّع في الانتفاع، فغدت سلاحه ضِدّ الحيوانات المفترسة والأعداء، وقد تكون محترفات نحت الحجارة توزّعت في غالبيّة الكهوف، ولا سيما أنّ الأحجار الصوّانيّة متوافرة بغزارة ومحيطة بالمدينة في السهل وعلى سفح الجبل.

 

       ولعلّ تكوين اسم "بعلبكّ" من لفظة "بعل"، وهو معبود الكنعانيّين، لأسطع دليل على أنّ بعلبكّ كانت كنعانيّة في الألف الثالث قبل المسيح.

 

 

       زدْ على ما سبق أنّ الحفريات الّتي أُجريت قبل اندلاع الأحداث اللبنانيّة كشَفَتْ أنّ المعابد الرومانيّة شيّدت فوق معابد قديمة تعود إلى حقب متلاحقة، أوّلها العصر البرونزيّ الأوّل (3000 – 2300 ق.م)، إذ دلّت على هذا الاستنتاج قطع الفخّار الملوّنة، والأسلحة الصوّانيّة والمعدنيّة، ورقاقات الزجاج البركانيّ (السبَجْ) المدفونة بين ركام هذا المعبد، وإلى جانبه مبنى آخر عُثر فيه على ثلاثة هياكل عظميّة وبين العظام وُجد دبوس برونزي مثقوب وفأس وحيّات خرز أرجوانيّة ترجع إلى عهود الهكسوس (1730 – 1580 ق.م).

 

       والجدير ذكره أنّ بعلبكّ قمّة فنّيّة عالميّة تضاهي وتنافس أروع قمم الفنّ في العالم. ففيها تتجلّى أعظم فنون العمارة وتقنيّاتها.

 

       وفي الحديث عن أسماء مبدعي وفنّاني هذه القيمة والقمّة الجماليّة والفنيّة والمعماريّة على أرض لبنان لم نعثر على إشارات تدلّ عليها ولا يزال يكتنفها الغموض ويلفّها النسيان. وبعلبكّ اسمها باليونانيّة هليوبوليس كونها قصرًا لعبادة الشمس. وقد شُيِّد فيها معبد جبّار هو معبد "جوبيتر"، واستغرق بناء وتجميل المعبد زهاء 260 سنة، بقي منه في حالته الطبيعيّة الأولى الأعمدة الـستّة المعروفة، وشُيِّد معبد آخر للإله "باخوس". وفي أثناء زيارة "جورج برنارد شو" لمدينة بعلبكّ عام 1961، وقف مدهوشًا أمام هذه المدينة العريقة وتلفّظ أوّل ما تلفّظ بهذه الكلمات: "لو كانت قلعة بعلبكّ في انكلترا لألغينا الضرائب"، على ما يذكره رشاد الموسويّ في كتابه "معلمو معلّمي العالم". (الأمبراطوريّة الحضاريّة اللبنانيّة – جوزف الخوري طوق الطبعة الأولى 2004).

 

وبعلبكّ مدينة قديمة البناء شماليّ دمشق. يقال إنّها من بناء سليمان بن داوود (عليهما السلام)، وفيها قلعة عظيمة على وجه الأرض مثل قلعة دمشق. يحيط بها وبالمدينة سور منيع محصّن، عظيم البناء، وهو مشاد بالحجارة الثقيلة الكبيرة والمقلوعة من الصخر الشديد المانع، وفيه ثلاثة أحجار عظيمة ممتدّة تحت برج وبدنتين كوامل ذوات أطوال وعروض وسمك مرتفع كأفلاق الجبال. وفي القلعة عمد عظيمة، شواهق، وسيعة المدور، منيفة العلوّ. (مسالك الأبصار في ممالك الأنصار لابن فضل الله العمريّ – المركز الإسلاميّ للبحوث). وفي هذا قال الدكتور إبراهيم الكوكبانيّ إنّه منذ اكتشافها عام 1887 لا تزال رسائل تلّ العمارنة تثير اهتمام الباحثين الّذين تمكّنوا بعد حلّ رموزها من تحديد مواقع معظم المدن المذكورة فيها باستثناء اثنتي عشرة فقط، إمّا لأنّ أسماءها الأصليّة قد تبدّلت وإمّا لأنّها غابت نهائيًا مع الزمن كمدينة "تونيب" التي ظلّ العلماء يشيرون إلى موقعها بكثير من الإبهام إلى أن عُثر في بعلبكّ على كسرة فخّارية تعود الى جرّة خمر مختومة بكتابة مسماريّة تحدّد نهائيًا موقع هذه المدينة على خريطة المنطقة (موسوعة مدن وقرى لبنان – نوبيليس – الجزء الرابع لطوني مفرّج).

 

وبعدُ، إنّ عبادة الشمس وصلت إلى "تونيب" أيّام "تحوتمس الثالث"، نظرًا إلى طبيعتها المشمسة، حيث تبوّأ "أتون" مركز الصدارة بين آلهتها فحملت اسمه كمدينة "أتون" أو "مدينة الشمس"، وقد ترجمها اليونانيّون لاحقًا إلى هليوبوليس. وفي كتابه "تاريخ بعلبكّ" (صادر عن المطبعة الأدبيّة سنة 1889) قال مخائيل موسى ألوف البعلبكيّ الآتي: "قد سدل الماضي حجابًا كثيفًا على تاريخ بعلبكّ القديم، فقلّما عرف عن ماضيها قبل التاريخ المسيحيّ سوى أنّها كانت من مدن فينيقيا العظام من مقاطعة كاليسيريا، أي البقاع. ولا يبعد أنّه استولى عليها الفرس ثمّ اليونان فالرومان، وأوّل ما يُعرف من تايخها القديم هو استيلاء يوليوس قيصر عليها في أواسط القرن الأوّل قبل المسيح، وجَعْله إيّاها من المستعمرات الرومانيّة، ولا تزال بيد الرومانيّين حتّى استولى عليها المسلمون تحت أمرة أبي عبيدة، ثمّ تعاقبت عليها الدول".

 

قصارى القول، إنّ عدّة مدن تاريخيّة طواها الزمن، فغدت أسطورةً من الأساطير التي تُروى وتتناقلها الألسن، ومنها أسطورة الأوقيانوس المغمور، أو حتّى حدائق بابل المعلّقة، في حين تستمرّ مدن أخرى تاريخيّة شامخة شموخ الجبال، عاصيةً على الزمن متحدّية نوائب الدهر، متغلغلةً في صفحات التاريخ، متجذّرةً في ثناياه، ومن هذه المدن مدينة بعلبكّ.

 

 

 

ADMIN

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment