لهذا سمي مخفر راس بيروت

"مخفر حبيش"؟

من اللافت أنّ جميع مخافر بيروت، تحمل أسماء المناطق التي تتمركز فيها، باستثناء مخفر واحد يسمّى "مخفر حبيش" في رأس بيروت. فهل يتذكر أهالي بيروت سبب هذه التسمية الاستثنائيّة؟

تعود بنا الذاكرة الى العام 1920، عندما كانت جيوش الاحتلال البريطانيّ والفرنسيّ ما تزال جاثمة فوق الأرض اللبنانيّة وتحديدًا في بيروت التي تسلّمها الفرنسيّون بموجب معاهدة "سايكس بيكو" الشهيرة.

وحدث ذات يوم أن تشاجر جنديّ بريطانيّ في أحد مقاهي بيروت، مع ثلاثة شبّان من آل دعبول الذين دبّت فيهم الحميّة الوطنيّة فأثخنوه جراحًا بخناجرهم. نجا الجنديّ البريطانيّ من الموت، فيما فرّ الفاعلون إلى جهة مجهولة، وعلى الفور بعثت قيادة الجيش البريطانيّ إلى السلطة الفرنسيّة، مذكرة شديدة اللهجة تطالب فيها بالقبض على الفاعلين ومحاسبتهم.

في ذلك الوقت، كان مدير الشرطة يدعى الياس فيّاض وهو شاعر أيضًا وشقيق الطبيب المفوه والأديب اللامع نقولا فياض. استدعى مدير الشرطة المفوّضين في الجندرمه (الدرك) الشيخ يوسف حبيش وخليل محمود صعب وزوّدهما بأربعة من رجال الشرطة الأشدّاء وطلب منهم عدم العودة إلّا بعد إلقاء القبض على المعتدين من آل دعبول.

توجّهت هذه القوة بعد الغروب باتّجاه حرش بيروت حيث يقيم هؤلاء المطلوبين...وقد حالفهم الحّظ بإلقاء القبض عليهم وعادوا بهم مخفورين إلى دائرة الجندرمة سيرًا على الأقدام. كان المفوّض الشيخ يوسف حبيش فرحًا بنجاح مهمّته، فكان يمازح زملاءه وهو يغني. وعندما يمرّون بأحد المقاهي، يتوقّفون ليشتري لهم الشيخ يوسف "الكازوز".. ممّا أخّر وصولهم إلى مركز المديريّة.

هذا التأخير لم يكن يرضي المفوّض صعب، لأنّه كان يريد الوصول إلى المديريّة قبل هبوط الليل. لكن أمرًا ما حصل عند وصولهم إلى الشمال الشرقيّ من حديقة الصنائع قرب بناية "الأونيون". فقد إلتفت الشيخ يوسف إلى الطريق المؤدّية إلى الجنوب، فشاهد جماعة من الناس وهم قادمون باتجاه المفرق بشكل لافت.. فقال لخليل صعب: يجب أن نرى من يكون هؤلاء؟

ردّ عليه خليل: دع الناس وشأنهم يا شيخ يوسف..لقد أنهينا مهمّتنا ويجب أن نعود إلى المديريّة.

غير أنّ يوسف حبيش قال له: حسنًا أنا سأرى من هم. واستلّ مسدسه متقدمًا نحو الرجال وهو يخفي مسدسه خلف ظهره، وسرعان ما أدرك أنّهم من المشبوهين، إذ كانوا يجرّون أمامهم خروفًا ربما كانوا قد سرقوه.. وعندما قال لهم: من أنتم يا شباب؟ تفرّقوا بسرعة وأطلقوا عليه النار بشكل متواصل..

رمى الشيخ يوسف نفسه إلى جانب الطريق ليحتمي من الرصاص. وعندما توقّف إطلاق النار، نهض وأخذ يطلق عليهم الرصاص فتقهقروا أمامه.

ويبدوا أنّ إثنين من الموقوفين من آل دعبول وأحد أفراد الشرطة، أصيبوا بعدّة طلقات.. ففرّ الجميع بينما أفرغ الشيخ يوسف حبيش والدركي المرافق سعيد جهجاه صعب الرصاص باتّجاه الفارين. أّما خليل صعب فقد كمن في مكان خفيّ، بانتظار جلاء الموقف، وفجأة برز أحد الفارين وأطلق النار على الشيخ يوسف حبيش فأصابه بعدّة طلقات سقط على إثرها يتخبّط بدمه.

وعندما شاء التحوّل باتجاه سعيد جهجاه، وثب عليه سعيد وقبض على معصمه الأيمن لكنّ المشبوه أفلت منه ووقعا معًا على الأرض. غير أنّ المشبوه كان أسرع في الوقوف فرفع مسدسه في وجه سعيد، لكنّ خليل كان أسرع، إذ عاجله برصاصة في رأسه أردته قتيلًا.

توفّي المفوّض الشيخ يوسف حبيش في اليوم التالي متأثّراً بإصابته البالغة.

وبعد مضي ثلاثة أيّام، دخل المفوض صعب إلى مخفر حرش بيروت فوجد في غرفته رجلًا جاثياً أمامه، وتبين أنّه والد المغدور يوسف حبيش. فأنهضه خليل وتعانقا وهما يبكيان حزنًا على فقيدهما.

وبعد أيّام منحت الحكومة مكافأة ماليّة ووسامًا رفيعًا تكريمًا لخليل صعب، وأصدرت قراراً بتسمية مخفر رأس بيروت "مخفر حبيش" تكريمًا للشهيد يوسف حبيش.

بعد أسابيع قليلة، تولّى مديريّة الشرطة السيّد فوزي رمضان، وهو تحرٍّ سابق بزمن السلطنة العثمانيّة، فاستدعى المفوّض خليل صعب، رئيس المخفر وطلب إليه سرعة توقيف الأشقياء الذين قتلوا المفوّض حبيش ولو أدّى ذلك لقتلهم ثأرًا لدماء رفيقه الشهيد، وإعادة الهيبة للشرطة، والمحتمل وجودهم في منطقة نهر أبو شاهين (ساقية الجنزير حاليًّا) وفقًا لاستخبارات وردت اإلى مدير البوليس.

كانت محلّة ساقية الجنزير مطلع العام 1920 عبارة عن بساتين وغرف زراعيّة متباعدة فانبرى رئيس المخفر المقدام، خليل صعب، وثلاثة من معاونيه الأشدّاء بالتصدّي لهؤلاء القتلة الذين تبادلوا النار مع عناصر المخفر وتعاركوا معًا مستخدمين السكاكين أحيانًا بعدما نفذت الذخيرة. وقد ساهم المفوّض داود أبو شقرا رئيس مخفر البسطة بحينها والذي صودف وجوده بالمحلّة، بدعم المفوض خليل، وبنتيجة القتال الضاري لأكثر من ساعتين، قتل اثنان من القتلة وفرّ الثالت ليتم توقيفه لاحقًا ويموت في السجن أثناء تنفيذه الحكم الجزائيّ.

أنعمت الحكومة على المفوض خليل ورجاله الأشدّاء بمكافآت وترقيات تقديرًا لبسالتهم بفرض الأمن وبسط هيبة الدولة بحينها.

منذ عامين تقريبًا، ومن ضمن إدخال برنامج الشرطة المجتمعيّة الى قوى الأمن الداخليّ، أعيدت تسمية فصيلة رأس بيروت الى القطعة عينها، بعد انقطاع لأكثر من 85 سنة فيما بقيت تسمية مجمّع حبيش قائمة حيث يضم المبنى قطعات: قسم المباحث العامّة، مكتب مكافحة المخدرات المركزيّ، مكتب مكافحة القمار، ومكتب حماية الآداب ومكافحة الاتجار بالبشر. وها عناصر فصيلة شرطة رأس بيروت كما كانوا منذ عشرات السنين، ينفذون خدمتهم عبر دوريات راجلة وسيارة وعلى الدراجات، ذكورًا وإناثًا، وعلى مدار الساعة، لا سيّما على كورنيش عين المريسة الذي يعجّ بالمتنزهين وممارسي رياضة الركض والمشي بكل الأوقات، ينشرون الأمن والطمأنينة، بحرفيّة متقدّمة، وأعيد الى الشرطة مفهوم الخدمة المجتمعيّة باستخدام الوسائل الحديثة ومراقبة فاعلة من إدارة قوى الأمن الداخليّ العريقة بعملها الأمنيّ، والموثوق بقدراتها على التصدّي للأشقياء ومحترفي الأساليب المتقدّمة بارتكاب الجرائم بحقّ المواطنين فتلاحقهم وتمارس دورها في الأمن الوقائيّ لمنع ارتكاب الجرائم، والدور القمعيّ بتوقيف الجناة وضبط الأدلّة والقيام بوظيفة الضابطة العدليّة بإشراف النيابات العامّة المختصّة.

"مخفر حبيش" سمّي بإسم المفوّض "الشيخ يوسف حبيش" تكريمًا لاستشهاده وهو يكافح المجرمين واللصوص.

( يراجع في ذلك، كتاب "الحنين الى بيروت" الجزء الثاني صفحة 32، وأيضاً مقالة للعميد المتقاعد في قوى الأمن الداخليّ أنور يحي منشورة في جريدة النهار بتاريخ 30/6/2017 بعنوان من مخفر رأس بيروت إلى مخفر حبيش ثم إلى فصيلة رأس بيروت مجدّدًا).