التبويبات الأساسية

قرار قاضي الحبال صوت صارخ في البرية

قرار قاضي الحبال صوت صارخ في البرية

جمعيات سرية والاشتراك في تجمعات الشغب.

 

هذا القاضي المقدام وضع بقراره الحق في نصابه وأعاد الى المبادئ حقوق الإنسان، ولا سيما للحريات الشخصية قيمتها وقوتها في زمن كثرت فيه الانتهاكات الحقوقية واستفحلت، في زمن نسي فيه البعض أو تناسى مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي لا حياة للبنان من دونها، وفي وقت تراكمت فيه الأخطاء القضائية وتهافت الانتقادات الموجهة من كل حدب وصوب الى بعض القضاة.

وبصدور هذا القرار، أثبت القضاء اللبناني ان فيه الكثيرين من القضاة الشرفاء والشجعان، من القضاة الفرسان الذين يحملون السيف باليد اليمنى وناموس الحريات بالأخرى والذين ما زالوا يؤمنون بالحق الذي يصلون له رهباناً في معابد الحريات المغمورة بغمائم النسيان والظلام المدلهم.

 

نطق قرار الحبال بالحق فجاء صرخة مدوية أعلنت للملأ ان "الآراء المعارضة ليست مخالفة للقانون ولا الدستور في دولة تعتمد الديمقراطية أساساً لنظامها السياسي". لكن القرار ذاته وبخطوة جريئة، يمكن أن تكون الأولى من نوعها منذ بداية حكم الطائف، أبطل الإجراءات والتحقيقات الأولية برمتها كونها نفذت من جانب رتباء عسكريين بجرائم عادية لا تدخل ضمن اختصاص القضاء العسكري.

 

وبهذا فان القرار المذكور بنى النتيجة التي توصل اليها من جهة على أساس مخالفة ادعاء النيابة العامة والتحقيقات التي جرت في المرحلة التمهيدية للمحكمة الجزائية لقواعد الاختصاص النوعي، وعلى أساس عدم توافر العناصر الجرمية في الأفعال المسندة الى المدعى عليهم وذلك لتعارض الادعاء العام مع الحريات العامة وحقوق الإنسان من جهة أخرى.

 

 

أولاً: في مخالفة التحقيقات الأولية لقواعد الاختصاص:

تبين ان الملاحقة الجزائية التي سيرت في هذه القضية ضد الشبان العونيين و"القواتيين" كانت قد بنيت أساساً على تحقيقات أولية نظمت على يد محققين عسكريين في قيادة الجيش في حين ان الأفعال التي أسندت الى هؤلاء الأشخاص (وهي جرائم الانتماء الى جمعيات سرية المنصوص عليها في تجمعات الشغب المنصوص عليها في المادة 346 من قانون العقوبات) لا تدخل في عداد الجرائم التي يعود حق النظر فيها للمحاكم العسكرية وفقاً لأحكام المادة 24/68 الصادر في 31/4/1968. وهذا ما يخالف صراحة أحكام المادة 38 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تحدد على سبيل الحصر وفي شكل لا لبس فيه الأشخاص الذين يتمتعون بصفة الضابطة العدلية والذين يمكنهم على هذا الأساس القيام بالتحقيقات الأولية تحت إدارة النائب العام المختص وإشرافه، وليس من بينهم طبعاً أفراد الضابطة العدلية العسكرية وضباطها، عندما تكون الجريمة المسندة الى الشخص الملاحق جريمة عادية أي لا تدخل ضمن اختصاص قضاء خاص أو استثنائي.

 

والقاضي الحبال بنى حكمه على أساس هذه المادة، وهو بذلك على حق، ليخلص الى النتيجة القانونية الصحيحة القاضية بإبطال كل الإجراءات والتحقيقات كونها نفذت من جانب ضابطة عدلية غير مختصة. وقد جاء في تعليل قرار القاضي حبال لهذه الجهة "ان التحقيقات الأولية المرتكز اليها الادعاء منظمة من جانب محققين عسكريين في قيادة الجيش، وحيث ان أمر اجراء التحقيقات الأولية منوط بحسب المادة 38 أصول جزائية بالنيابة العامة ومساعديها من الضابطة العدلية، وهم وفقاً للمادة المذكورة، المحافظون والقائمقامون، ومدير قوى الأمن الداخلي والشرطة القضائية وضباطها ورتباء التحقيق ورؤساء المخافر، ومدير قوى الأمن العام وضباطه، ورتباء التحقيق في الجهاز المذكور، ومدير أمن الدولة ونائبه وضباطه ورتباء التحقيق فيه، ومخاتير القرى وقادة السفن البحرية والطائرات والمركبات الجوية. وحيث يتبيّن انه ليس من بينها المحققون العسكريون،

 

وحيث ان التعداد المذكور قد ورد على سبيل الحصر فلا يجوز التوسع في تفسيره، ولا سيما ان قانون أصول المحاكمات الجزائية هو قانون يحدد أصول الملاحقة الجزائية، ولا يمكن انطلاقاً من صفته هذه التوسع في تفسيره حفاظاً على حقوق الإنسان والحريات العامة...".

ويتبين على صعيد آخر ان القرار المذكور أثار نقطة قانونية جديرة بالاهتمام وهي إشارته الى قانون المحاكمات الجزائية وكونه يتعلق بالملاحقة الجزائية وينص على إجراءات تحد من حريات الأفراد ولا سيما من حرياتهم الشخصية والعامة، فلا يجوز تأسيساً على ذلك التوسع في تفسيره حماية لحقوق الإنسان وللحريات العامة. وهذا التعليل يأتي متوافقاً مع المبدأ العام المطبق في ما خص تفسير القوانين الجزائية وهو مبدأ التفسير الضيق وخصوصاً عندما لا تكون القوانين المعنية الأصلح للجاني أو لا تصب في مصلحته. وهذا ما هو مكرس صراحة في المادة 111/4 من قانون الجزاء الفرنسي الجديد التي تنص على ما حرفيته: La loi penale est d’interpretation stricte ويؤكّد اجتهاد محكمة النقض الفرنسية، الغرفة الجزائية هذه القاعدة محظراً على قضاة الموضوع تفسير القوانين الجزائية من طريق القياس أو الاستنتاج أو بطريقة واسعة. والمحكمة المذكورة قررت في العديد من قراراتها انه لا يجوز للقاضي اللجوء الى تفسير القوانين الجزائية عندما يكون معنى النص خالياً من أي التباس أو غموض (قراراها الصادر في 10/12/1985، النشرة الجنائية رقم 396، قرارها الصادر في 31/3/1992، النشرة الجنائية رقم 134، قرارها الصادر في 29/9/1992، النشرة الجنائية رقم 287).

 

ولأن القاضي الحبال أراد أن يبني على الشيء مقتضاه خلص الى النتيجة القانونية الطبيعية والعادلة وهي إعلان الإجراءات والتحقيقات المنفذة في المرحلة التمهيدية للمحاكمة مخالفة لقواعد الاختصاص كونها أجريت من جانب محققين عسكريين في الجيش اللبناني في جرائم لا تدخل ضمن اختصاص القضاء العسكري. وبناء عليه قرر القاضي المذكور إبطال التعقبات بحق المدعى عليهم معلناً انه " وحيث ان الجرائم موضوع الملاحقة الحاضرة هي جرائم عادية من اختصاص القضاء العدلي، وحيث يتحصل من مجمل ما تقدم وجوب إبطال التحقيقات الأولية المسند اليها الادعاء أعلاه، كما سبق بيانه، وذلك سنداً الى أحكام المادة 190 أصول محاكمات جزائي".

 

والبطلان المقرر هنا هو نوع من البطلان المطلق الذي يمكن إثارته عفواً من جانب القاضي وفي كل مراحل المحاكمة وحتى للمرة الأولى امام محكمة النقض، وذلك لأن قواعد الاختصاص تتعلق بالانتظام العام وتنطوي نتيجة ذلك على مصلحة عامة. وهذا ما أكدته صراحة محكمة التمييز اللبنانية في العديد من قراراتها: "وحيث ان مسألة الصلاحية الجزائية هي من الانتظام العام ويقتضي إثارتها عفواً، وحيث لا يتبين وفقاً لما سبق بيانه ان الجرم المنسوب للمجند ز.ط. له علاقة بوظيفته فتكون الدعوى الحاضرة وفقاً للقانون رقم 306 خارجة عن صلاحية القضاء العسكري وعائدة للقضاء العدلي، الأمر الذي يستتبع إبطال قرار قاضي التحقيق العسكري المطعون فيه لصدروه عن مرجع لم يعد مختصاً وفقاً للقانون رقم 306 دونما حاجة للتطرق الى موضوع الطعن المقدم من الجهة المستأنفة ... " (قرار محكمة التمييز، الغرفة الجزائية السادسة رقم 172 تاريخ 12/7/2001، ص 907 وما يليها . يراجع في المعنى ذاته قراراها الصادر في 5/9/2001 تحت رقم 208، المرجع ذاته ص 1000 وما يليها).

وبالإضافة الى تركيز قرار القاضي الحبال على المخالفة المتعلقة بقواعد الاختصاص، فهو يؤكد عدم توافر العناصر الجرمية القانونية في الأفعال المنسوبة الى الأشخاص المدعى عليهم وذلك لأن الآراء المعارضة لا يمكن ان تؤلف جرائم جزائية في دولة ديمقراطية.

 

ثانياً: في عدم توافر العناصر الجرمية في الأفعال المسندة الى المدعى عليهم:

 

كان قد أسند الادعاء العام الى الأشخاص المدعى عليهم في هذه القضية جرائم الانخراط في جمعية سرية أو تأليف جمعية سرية لهدف مناف للقانون (الجرائم المنصوص عليها في المواد 337 وما يليها من قانون العقوبات) وجريمة تجمعات الشغب المنصوص عليها في المادة 346 من القانون ذاته. وبصورة استطرادية أثبت قرار القاضي الحبال أن عناصر هاتين الجريمتين غير متوافرة في الأفعال التي أسندت الى محبذي "التيار الوطني الحر " أو مناصريه وذلك للسببين الآتيين:

 

 1_ لم يثبت انتماء هؤلاء الأشخاص المدعى عليهم الى حزب سياسي غير مرخص له وفقاً لأحكام المادة 337 من قانون العقوبات التي تسبغ صفة الجمعية على كل جمعية أو جماعة لها في الواقع صفة الجمعية اذا كان غرضها منافياً للقانون وكانت تقوم بأعمالها أو البعض منها سراً. كذلك تعد سرية الجمعيات والجماعات نفسها التي ثبت ان غرضها مناف للقانون ولم تعلم السلطة، بعدما طلب اليها ذلك، بأنظمتها الأساسية وبأسماء أعضائها ووظائفهم وبموضوع اجتماعاتهم وبيان أملاكها ومصدر مواردها أو أعطت عن هذه الأمور معلومات كاذبة أو ناقصة".

 

ويظهر واضحاً ان هذا النص لا ينطبق على الأفعال المنسوبة الى الأشخاص المدعى عليهم، ذلك أنه لا يمكن اعتبار "التيار الوطني الحر" تنظيماً سياسياً أو حزباً سياسياً بالمعنى القانوني للكلمة. فهو تيار سياسي له محبذوه ومناصروه الذين يؤمنون بمبادئ الحرية والسيادة والاستقلال، وهي مبادئ لا يحظرها القانون اللبناني وتعتبر من الحقوق الأساسية والطبيعية للشعوب، ويمكن التجمع تحت لوائها من دون أن يعتبر هذا التجمع حزباً سياسياً غير مرخص له بالمفهوم القانوني. هذا من جهة، اما من جهة أخرى فان صفة السرية لا تنطبق على "التيار الوطني الحر"، إذ ان مناصريه ومحبذيه يعلنون ما يؤمنون به من أفكار وآراء علناً ويطالبون بتطبيقها جهاراً من دون خوف أو مواربة. ولهذا فلا يمكن أن ينطبق وصف الجمعية السرية على تجمع الأشخاص الذين تم الادعاء عليهم في هذه القضية.

 

2_ ان الآراء السياسية المعارضة والمطالبة بالسيادة والاستقلال لا يمكن اعتبارها مخالفة للقانون، وذلك لأن الدستور اللبناني كفل في المادة 13 منه حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات أضف الى ذلك ان الدستور ذاته تعهد في مقدمته التزام مواثيق الأمم المتحدة ولا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (م19 و20) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (م19/1 و20). وهذه المواثيق تنص صراحة على ضرورة احترام هذه المبادئ السامية في دول يسبغ على نظامها السياسي صفة النظام الديمقراطي فأعلن: "وحيث واستفاضة في البحث القانوني، فانه يتضح من سياق الدعوى ومجمل المستندات المبرزة في الملف، ان المدعى عليهم هم من محبذي تيار سياسي معين يؤمنون بأفكاره ومبادئ السياسية، ولم يثبت انتماءهم وفقاً للمعنى القانوني لهذا المصطلح الى حزب سياسي غير مرخص له، فضلاً عن ان الادعاء بمقتضى المواد 337 و338 و339 من قانون العقوبات يفترض أن يكون للجمعية أو الجماعة السرية غرضاً مخالفاً للقانون، الأمر غير المتحقق في القضية الحاضرة، علماً ان الآراء السياسية المعارضة لا يمكن أن تعتبر مخالفة للقانون في دولة تعتمد الديمقراطية أساساً لحكمها، باعتبار ان حرية الرأي والمعتقد والتعبير مصونة بنصوص الدستور وما دام هذا الرأي وذلك التعبير لا يهدف الى ما يمكن اعتباره مخالفاً للقانون أو مخلاً بالنظام وامن الدولة، بل هو مجرد لرأي سياسي معارض للتوجهات السياسية المتبعة من جانب الدولة". 

 

اما بالنسبة الى فعل تجمع الشغب المنسوب الى الأشخاص المدعى عليه، فلا بد من التذكير بأن نص المادة 346 من قانون العقوبات لا يجرم هذا الفعل الا اذا كان الهدف من التجمع اقتراف جناية أم جنحة أو كان يقصد من ورائه الاحتجاج على قرار أو تدبير اتخذتها السلطات العامة بقصد الضغط عليها أو اذا ربا عدد الأشخاص على العشرين وظهروا في مظهر من شأنه أن يعكر الطمأنينة العامة.

وغني عن البيان ان هذه الشروط التجريمية لا تتوافر في الأفعال المسندة الى الأشخاص المدعى عليهم لأن التجمع أو الموكب الذي اشتركوا في تأليفه لم يهدف الى ارتكاب أي جريمة ولا الى الاعتراض على قرار اتخذته السلطات العامة ولم يؤد تالياً الى تعكير الطمأنينة العامة. أضف الى ذلك ان الأشخاص المدعى عليهم كانوا قد تفرقوا وانصرفوا ممتثلين لإنذار أفراد القوى العامة من دون أن يستعملوا أي سلاح ومن دون ارتكاب أي جريمة، مما يعفيهم من العقوبة الجزائية المنصوص عليها في المادة 346 المذكورة وذلك وفقاً لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 347 من قانون العقوبات في حال اعتبار الجريمة مكتملة بكل عناصرها. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فيمكن التأكيد ان نص المادة 346 من قانون العقوبات يحمل اعتداء على حرية التظاهر السلمي ويخالف بذلك أحكام الدستور اللبناني وأحكام الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تكرّس صراحة هذا الحق. وإدراكاً منه لهذه القواعد السامية قرر القاضي الحبال عدم توافر العناصر الجرمية لأفعال الشغب والشدة المدعى بها لهذه الجهة، لكنه أحال على الفقرة الأخيرة من المادة 347 من قانون العقوبات كي يؤسس حكمه على عنصر الإعفاء من العقاب. وهنا نجد انه كان من غير الضروري الإحالة الى هذا النص ما دامت العناصر الجرمية للأفعال المدعى بها غير متوافرة في هذه القضية.

 

سيبقى هذا القرار الصوت الصارخ في البرية، صوت الحق والضمير والحرية. وسيتأكد عبر القرار ذاته أن في القضاء اللبناني من خيرة القضاة وأنبلهم أمثال القاضي هاني الحبال والقاضية غادة عون وغيرهما كثر وكثر آمنوا بالحق والحقيقة والعدالة. قضاة شجعان وفرسان بواسل في لحظات الخوف والضياع والصعوبات التي تواجههم يومياً.

فليحيا هؤلاء القضاة، ولنردد معهم: "وقل جاء الحق وزهق الباطل، ان الباطل كان زهقاً"

 

                                                              بقلم الدكتور دريد بشراوي

                                                         أستاذ محاضر في القوانين الجزائية

                                                 في جامعة روبير شومان _ فرنسا

                                                 محام عام اسبق، محام بالاستئناف

 

ADMIN

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment