التبويبات الأساسية

المعهد الأنطوني والإرتباط بالحدث

المعهد الأنطوني والإرتباط بالحدث

المعهد الأنطوني والإرتباط بالحدث
بقلم : الدكتور جورج شبلي

إذا كان البعض قد أوّل ما ورد في كتب المتصوّفين عن موضوع وحدة الوجود أو الحلول، على أنه عقيدة ضالة، فاتُّهِمت الصوفية بالزندقة والكفر، على أساس أنّ الحلول نِحلة دخيلة لأنّ الإتّحاد بالله باطل ومُحال، غير أنّ اتّحاد لاهوت دير الأنطونيّين بناسوت بلدة الحدث هو عِلمٌ راجحٌ وعمل صالح ومجاهدة قائمة على الإيمان والعلم.
لطالما كانت الثقافة هي المسارَ الموصل للقمة، لأنّها الركن المعنويّ للحضارة والذي يحضن القِيم، من هنا لم يعش المعهد الأنطونيّ في غربة عنها، ولم يحجز تأثيره فيها عن جيرانه. فبالإضافة الى ولائه الثّابت غير المتردّد لله الذي وعده بالبَركة، والولاء هنا إيمان قويم، كان المعهد كارزاً بالمصادقة مع الآخر، نبيلاً في نشر العلم، يشفع للمشتاقين الى توسيع مدارك عقولهم أمام الثقافة، وبذلك كان أجره عظيماً.
الإستقامة في التثقيف تحرس المعرفة، والإستقامة في الإيمان تحرس الصلة بالسماء، لذا، فالحدثيّون والمعهد ورثوا معاً نعمة الروح، وهي في الإرثِ الإرثُ الأثمن. لقد نشر الأنطونيّون في الحدث القريبة كلمات الربّ السرمديّ، أصل الكلّ وعلّة وجود الكلّ، وما اكتفوا بمنحوتة الثقافة يرصّعون بها الجدران المغلَقة، والثقافة تذكارٌ لعمل الخالق، لكنهم حرصوا على أن يشعّ جمالها وأن تُنفِق محصولها على سواهم، وفي مقدّم هؤلاء أهل الجوار، ونحن منهم، فأبرأوا بذلك ذمّتهم من الدين والدنيا.
لقد قام في وسط الأنطونيّين رهبان قدّيسون، ومنهم حدثيّون أدركوا مقدار حبّ الله إيّاهم، فما قصّروا في دفع الرابط بين الدَّير والضَيعة الى التَمتين، وجعلوه وليمةً دائمة، والوليمة غذاءٌ وفرح. وكان الرّابط بينهما كالخيط المثلوث لا ينقطع بسهولة، فعين العقل في الحدث لا تشبع، وزرع البِرّ والمعرفة في الدّير دفقٌ نهريٌّ لا يتوقّف.
علّمنا المعهد، نحن أبناءَ الحدث، أنّ تحصيل الحكمة خيرٌ من اللآلئ، وأنّ رأس المعرفة معرفة الله، وأنّ الحقيقة خالدة كعمود من نور. علّمنا المعهد أن أسوأ الوصمات الجهل، وأنّ قيمة الفضيلة في ازدهارها، وأن معرفة الخير توصل إليها طريق الصواب، وأنّ طهارة الروح سنّتها الفكر الصالح والفعل الصالح، وما الصلاح الذي فينا سوى نعمة أمدّتنا بها السماء. علّمنا المعهد أن نكون رجال الإثنين لا الجمعة، علّمنا الثقة بأنّ مَن يتوكّل على ربّه لا يهلِك، وأنّ مَن يُعطي بلا مِنّة ولو شيئاً زهيداً، فإنه يقضي على نسل الشياطين.
لقد آمن الأنطونيون بأنّ المعرفة دستورٌ يفسّر أصل الحياة، أو هي قطع المسافة بين المادة والحياة، وهي تجسيد للعظمة الكونيّة لأنّها الكلّ في الكلّ، أو هي روح العالم المتنقّلة في المواليد، أُريد بها مجازاة العقل سيّد الحركة، ليتحوّل بها ومعها من وجود بالقوة الى وجود بالفعل. هذه المعرفة التوّاقة الى الأعاجيب، لأنّ نورها يلتهم الخبائث، لم يحبسها الأنطونيّون في قمقم، فأفاد الكُثُر من الحدثيّين ممّا قُدِّم لهم على مقاعد المعهد، وما قُدِّم عِلمٌ بلبوس المحبّة أرقى الفلسفات، والأنطونيّون يعلمون تماماً أنّ المــُعطيَ في العِلم هو دوماً أسعدُ من الآخِذ.
إنّ الشعور الإجتماعيّ الطيّب يجعل دوماً للجوار جمالاً، لذا أقامت الحدث للمعهد في قلبها تمثالاً، لا لتجزي خيره، فجزاء الخير في الخير نفسه، بل لتؤكّد على ثمار هذا الخير، وأشهاها أنّ معرفة الحقيقة تَقي القلب من آلام الخطأ. هذه الحدث، أرض العزّ الغاصّةُ بأعلام الآداب والفنون، جاهدت في سبيل الحقيقة وكانت على صواب، ومَن كان على صواب سارَ قِدَماً وإنْ كان عليه أن يواجهَ الخَطر. لقد جاهدت الحدث، مدفوعةً من إرثٍ عريق لا ارتباك فيه، ومن كَسبٍ روحيّ ووطنيّ ومعرفيّ مدّتها به ظلال صنوبرات الدَّير التي عتّقها نضال السنين، وأحنى غصونَها تواضعاً، على جسارتها، سكونُ التأمّل بقدرة الخالق. وكما أنّ الرّعد هو أعلى الأصوات، فهتاف الحدث للدَّير هو أقصى هتاف، ويرضى به الدَّير، فمن السّهل إرضاء مَن يشبه النور.
لقد قيل إنّ الوقت يقتل الذاكرة، وقوانين الطبيعة ثابتة في هذا الإتجاه، غير أنّ طول الزمان سار بعكس عَجَلة النّاموس، فعمّق بين الدّير والحدث التكاملَ بالمحبّة، لأنّ ما من وثاقٍ أشدُّ تقييداً منها، والجدير بالمحبة هو مَن أحبّ الناس جميعاً كما يحبّ نفسه. والحدثيّون الذين اشتهروا بالنمط المستقيم، مُتخَمون بمحبّة رهبان أنطونيوس كوكب البرّية، وهذا الأمر ليس ضريبة، إنّه استراحةٌ بين أيدي قدّيسين، وشَغَفٌ بطقوس النّبل، وتسامٍ الى مبادئ المعرفة. وهذا اعتراف بواقعٍ وليس مدحاً، فنحن نعرف أنّ العاقل لا يترنّح أمام ثناء.
الرهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة، وعلى رأسها قيادة راجحةٌ في الفكر وراسخةٌ في العلم، تشغل نفسها دوماً باجتراح العظيم اللائق بخدمة الأحياء، فما أسمى التفوّقَ الخلقيَّ الذي مصدره العطاء، هذا الذي به نسعد بالتحليق فوق الخلاء الكونيّ. والعطاء الرهبانيّ ثنائيّ التوجّه، أفاد منه الحدثيّون، كما البعض من الأقربين والأبعدين، علماً وفضيلة، لأنّ الرهبان علّمونا ما في الكتاتيب لنسترشد بالمعرفة فيستقيمَ فينا العقل، ورسَّخوا في أذهاننا الصدقَ والخير ومحبةَ الحقّ وجعلَ الوطن حالةَ انتماء وصلاة، لتنتظم فينا القِيَم وأوّلها الولاء لهذه الأرض التائقة الى السلام.
إذا كانت الطبيعة منتزهاتٍ للعيون، فمواصلة التعبّد منتزهات للقلوب، وبها تُحَطَّم أغلال المادّة للوصول إلى التفكير في الحقائق النهائيّة، فيتمّ تصالح الذات مع الله، وهو سبيل الرهبان الى الزّاد الأزليّ. هذا التوهّج البهيّ الذي فاض من الدّير، لهّفنا، نحن الحدثيّين الى شبك حياتنا به، فشَمَخْنا معه بكبرياء مستمدّ من شموخ أرزة لا تنحني مهما قسا عليها التراب.

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment