التبويبات الأساسية

الديمقراطيّة

  • الديمقراطيّة-0
  • الديمقراطيّة-1

الديمقراطيّة

المقدّمة:

إنّ الديمقراطيّة هي سلطة الشعب الذي يختار من يحكمه وله الحقّ في عزله إن حاد عن المبادئ المرسومة والمتّفق عليها، وهي تطوّرت مع تطوّر الأزمنة واستقرّت كنظام أوّل يطبّق في أيّامنا الراهنة... .

ولكن هل الديمقراطيّة هي محض آليّة للحكم؟ أم هي مشروع (ثقافة سياسيّة) يرمي إلى تأمين الارتقاء الشخصيّ للفرد؟ وهل يمكن أن توجد دون أن يكون الشعب قد تربّى على الحفاظ عليها ليتمكّن المواطن من حسن اختيار ممثّليه في الندوة البرلمانيّة ؟

هذه الأسئلة وغيرها سنعالجها في بحثنا الراهن وسنلقي الضوء على الديمقراطيّة بحسناتها وسيئاتها وفقاً للآتي:

 

أوّلاً: تعريف الديمقراطيّة :

إنّ كلمة الديمقراطيّة مشتقّة من الكلمة اليونانيّة Demos التي تعني الشعب وكلمة  (kratos)  التي تعني الحكم، وبالتالي ان الديمقراطيّة هي "حكم الشعب". وقد عرّف الرئيس الأميركيّ أبراهام لينكولن في خطابه العام 1863 الديمقراطيّة على أنّها: "حكومة من الشعب يختارها الشعب من أجل الشعب". فالشعب وفقًا للمفهوم الديمقراطيّ هو أساس الحكم، يحكم نفسه بنفسه، وهو مصدر السلطات في الدولة ومصدر القانون الذي تخضع له الدولة، وهو الذي يختار الحكومة، وشكل الحكم، والنظم السائدة في الدولة، السياسيّة منها والاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة.

وللديمقراطيّة أشكال متعدّدة منها:

 

ثانيًا: أشكال الديمقراطيّة:

1 _ الديمقراطيّة المباشرة: سمّيت كذلك لأنّ الشعب يمارس بشكل مباشر _ من دون وسطاء أو نوّاب ينوبون عنهم _ سلطة صنع القرار والتصويت على قرارات الحكومة مثل المصادقة على القوانين أو رفضها، وهو يتولّى إدارة شؤون الحكم استنادًا إلى مبدأ سيادة الشعب، الذي لا يمكنه أن يكون محلًّا للتنازل.

إنّ هذا الشكل من أشكال الحكم نادر نظرًا لصعوبة جمع كلّ الأفراد المعنيّين في مكان واحد من أجل عمليّة التصويت على القرارات. ولهذا فإنّ كلّ الديمقراطيّات المباشرة كانت على شكل مجتمعات صغيرة نسبيًّا وعادة ما كانت على شكل دول المدن، وأشهر هذه الديمقراطيّات كانت أثينا القديمة، وفي العصر الحالي بعض المقاطعات في سويسرا. لكن الكاتب (دنيس ماكشين) علّق هذه الديمقراطيّة في مقال له بعنوان: (نهاية سويسرا): "إنّ أيّ مبادرة من البرلمان أو من المجلس الاتّحاديّ يمكن صدّها بسهولة عبر التلويح بإجراء استفتاء أو من جانب الكانتونات، وتتيح هذه المنظومة للشعب أن يكون له رأي في مجريات العمل في الحكومة، ولكنّها في الوقت نفسه تمنع القيادة الوطنيّة للبلاد من اتّخاذ قرارات حاسمة".

2 _ الديمقراطيّة شبه المباشرة: تبقى العلاقة قائمة بين الناخبين وبين النائب الذي انتخبه، ويستطيع الناخبون طلب إجراء انتخابات جديدة ومحاسبة النائب الذي انتخبوه. وهذا النوع مطبّق في سويسرا وبعض الولايات الاميركيّة. وهي نظام وسط بين الديمقراطيّة المباشرة التي يحكم الشعب فيها نفسه بنفسه دون وسيط والديمقراطيّة النيابيّة التي تقتصر مهمّة الشعب فيها على اختيار نوّاب يمارسون وظائف السلطة باسمه ونيابة  عنه.

ففي ظلّ هذا النوع من الديمقراطيّة لا يكتفي الشعب بانتخاب مجلس نيابيّ وإنّما يشارك هذا المجلس في مباشرة مظاهر الحكم خصوصًا الوظيفة التشريعيًّة، وبذلك تختلف الديمقراطيّة شبه المباشرة عن الديمقراطيّة المباشرة من ناحية عدم  ممارسة الشعب لكافة شؤون السلطة إذ يكتفي بممارسة البعض منها ويعمل على انتخاب من يمثّله لمباشرة الجانب الأكبر منها. وبهذا نلاحظ أنّ الديمقراطيّة شبه المباشرة تبيح للشعب حقّ الاشتراك في بعض شؤون السلطة بجانب البرلمان.

3 _ الديمقراطيّة الشعبيّة: تعدّ الديمقراطيّات الغربيّة هذا النظام غير ديمقراطيّ لأنّ أساليبه لا تتّفق والمقاييس الأساسيّة التي تقرّها الديمقراطيّات، فالتعبير عن إرادة الشعب يجري على أساس نظام معقّد مفروض من داخل أعلى قيادة حزبيّة أو جهة حكوميّة واحدة بحيث تقيّد حريّة الاختيار لدى المواطن وحريّة تأييده أو رفضه لحزب دون آخر.

4 _ الديمقراطيّة النيابيّة أو التمثيليّة: تسمّى ذلك لأنّ الشعب لا يصوّت على قرارات الحكومة بل ينتخب نوّاباً يقرّرون عنه، وشهد القرن العشرين تزايدًا كبيرًا في إعداد نظم الحكم هذه ولهذا صار غالبيّة سكان العالم يعيشون في ظلّ حكومات ديمقراطيّة نيابيّة حيث الشعب يختار من ينوب عنه لكيّ يمارس السلطة، فالشعب يبقى مصدرًا للسلطة غير أنّه لا يمارس السلطة بنفسه بل يفوّض السلطة إلى حاكم يختارونه من بينهم.

من المعلوم أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة تعتمد على مبدأ الوكالة التي بموجبها يفوّض الشعب أشخاصًا يمارسون الحكم نيابة عنه، والأعمال التي تصدر عنهم كأنّها صادرة عن الشعب، لكن لا يستطيع الناخبون محاسبة النائب إلى حين انتهاء فترة نيابته. وقد تشبه هذه النظريّة إلى حد ّما نظريّة الوكالة في القانون المدنيّ، إلّا أنّها تختلف عنها بأمر مهم هو ان الموكل بإمكانه عزل وكيله متى شاء، أو متى تجاوز حدود وكالته، لكن في النظام التمثيليّ، لا يحقّ للناخب عزل النائب حين يتجاوز حدود ما وكّل به، فلا يستطيع الناخب معاقبة النائب سوى عدم انتخابه مرة ثانية، مع العلم ان بعض الدساتير تعطي للناخب الحقّ في عزل النائب بعد جمع عدد معيّن من التواقيع.

وأيضًا مسألة اختيار النائب أو الوكيل كذلك لا تختلف عن اختيار الوكيل في القانون المدنيّ والذي يفترض في الموكّل الأهليّة التامّة، وشروطها محدّدة تتمثّل بتمتّع الناخب أوّلًا: بالحريّة التامّة في الاختيار، فلا يتعرّض للضغوط الطائفيّة أو العائليّة أو المناطقيّة أو النفسيّة، وإنمّا يخضع للمعيار الموضوعيّ في الاختيار المتمثّل وبالقناعة الذاتيّة بالمرشّح اعتمادًا على برنامجه الانتخابيّ الذي يراه محقّقًا لطموحاته، ثانيًا: ألّا يكون الانتخاب بدافع ماديّ، فبدون الحرّيّة في اختيار النائب لا وجود للديمقراطيّة. وتاليًا يجب أن نعتبر إنّ عدم توفّر شرط الأهليّة في الناخب قرينة على بطلان العمليّة برمّتها.

ثالثًا: مبادئ الديمقراطيّة:

انّ الديمقراطيّة هي مجموعة من المبادئ والممارسات التي تحمي حريّة الإنسان، وتقوم على أساس حكم الأغلبيّة المقرون بحقوق الفرد والأقليّات. فجميع الديمقراطيّات، التي تحترم إرادة الأغلبيّة، تحمي في الوقت ذاته الحقوق الأساسيّة للفرد وللأقليّات، حيث تقوم بدور الحارس الذي يحول دون تحوّل نظام الحكم إلى حكومة مركزيّة تمتلك كلّ السلطة متفهّمة إنّ الحكومة المحليّة ينبغي أن تتّصف بسهولة الوصول إليها من قبل الشعب والاستجابة لاحتياجاته قدر الإمكان. فالمواطنون في ظلّ الديمقراطيّة لا يتمتّعون بالحقوق فحسب، بل إنّ عليهم مسؤوليّة المشاركة في النظام السياسيّ، الذي يحمي بدوره حقوقهم وحريّاتهم.

 

رابعًا: الديمقراطيّة والأمم المتّحدة وحقوق الإنسان:

عندما صاغ الأعضاء المؤسّسون للأمم المتّحدة الميثاق لم يضمّنوه مفردة ’’ديمقراطيّة‘‘. ولم يكن هذا غريبًا. ففي عام 1945، لم تكن كلّ الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة تتبنّى الديمقراطيّة نظامًا سياسيًّا. ولاحقًا بذلت الأمم المتّحدة المزيد من الجهد لدعم الديمقراطيّة وتعزيزها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك من تعزيز الحكم الرشيد، ومراقبة الانتخابات، ودعم المجتمع المدنيّ، وتعزيز المؤسّسات الديمقراطيّة والمساءلة، وضمان حقّ تقرير المصير في البلدان المستعمرة.

فالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعيّة العامّة في عام 1948، يصوّر بوضوح مفهوم الديمقراطيّة، حيث يقول "إنّ إرادة الشعب أساس لسلطة الحكومة". ويبيّن الإعلان تلك الحقوق التي تعدّ ضروريّة من أجل الاضطلاع بمشاركة سياسيّة فعّالة. ومنذ اعتماد هذا الإعلان، يلاحظ إنّه كان بمثابة إلهام لواضعي الدساتير في كافة أنحاء العالم، كما أنه أسهم إسهامًا كبيرًا في تقبّل تقبّلًا شاملًا للديمقراطيّة بوصفها قيمة عالميّة.

والعهد الدوليّ الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة (1966) يُرسي القاعدة الأساسيّة لمبادئ الديمقراطيّة في إطار القانون الدوليّ، وهو ملزم لتلك الدول التي قامت بالتصديق عليه، وفي نيسان 2014، بلغ عدد الدول الأطراف في العهد 168، ممّا يناهز 85 في المائة من أعضاء الأمم المتّحدة.

والعهد المذكور يتضمّن بصفة خاصة:

  • حريّة التعبير (المادة 19)؛
  • الحقّ في التجمّع السلميّ (المادة 21)؛
  • الحقّ في حريّة تكوين الجمعيّات مع آخرين (المادة 22)؛
  • الحقّ في المشاركة في إدارة الشؤون العامة، سواء بطريقة مباشرة أم من خلال ممثّلين يختارون اختيارًا حرًّا، وفي الحصول على فرصة مناسبة للقيام بذلك (المادة 25)؛
  • الحقّ في أن يقوم بالانتخاب وبأن يكون هدفًا للانتخاب في انتخابات نزيهة تجرى دوليًّا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرّيّ، مع تضمّنها للتعبير الحرّ عن إرادة الناخبين (المادة 25).

كما تنصّ اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، على الدول الأعضاء التي قامت بالتصديق عليها (189 في تموز 2015) ، تكفل المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، الحقّ في التصويت والترشيح في الانتخابات، والمشاركة في الحياة العامة وصنع القرار (المادة 7)، بما في ذلك على المستوى الدوليّ (المادة 8).

وقد اعتبرت الأمم المتّحدة إنّ الديمقراطيّة من الأسس التي تقوم عليها حقوق الانسان وضمّنت لهم الحقّ بالانتخابات ونزاهتها وشملت جميع أفراد الدولة بغضّ النظر عن عرقهم أو مستواهم الاقتصاديّ والاجتماعيّ أو جنسهم والمساواة بين الجميع في الحقوق مثل حقّ التعبير عن الآراء كما ضمنت حريّة الانتماء للأحزاب ووجود البرلمانات وفصل السلطات وأن يكون الأساس التي تبنى عليه الحكومة هو تنفيذ حاجات الشعب ورغباته بما لا يتعارض مع مصلحة البلاد.

وفي عام 2007، طلبت لجنة السياسات التابعة للأمين العام وهي أعلى هيئة لصنع القرار داخل الأمانة العامّة للأمم المتّحدة وضع استراتيجيّة على نطاق المنظّمة للتعريف بنهج الأمم المتّحدة لدعم الديمقراطيّة، معتمدة على ثلاثة الأركان الرئيسيّة لعمل الأمم المتّحدة وهي: السلام، والأمن والتنمية، وحقوق الإنسان. وكلّف الأمين العام الفريق العامل المعنيّ بالديمقراطيّة في اللجنة التنفيذيّة للسلام والأمن (التي أنشئت في أيار 2007) بمتابعة منتظمة لمسألة الديمقراطيّة ووضع الاستراتيجيّات على وجه الخصوص.

خامسًا: الديمقراطيّة قيمة عالميّة:

أصبحت الديمقراطيّة قيمة عالميّة تستند إلى إرادة الشعوب المعبّر عنها بحريّة في تحديد نظمها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وقد شجّعت الجمعيّة العامّة في قرارها A/62/7 (2007) الحكومات على تعزيز البرامج الوطنيّة المكرّسة لتعزيز وتوطيد الديمقراطيّة، كما قرّرت الاحتفال في 15 أيلول من كلّ عام، اعتبارًا من دورتها الثانية والستين، باليوم الدوليّ للديمقراطيّة. كما حثّ القرار الدول الأعضاء والمنظمات الدوليّة والإقليميّة ومؤسّسات المجتمع المدنيّ على الاحتفاء بهذه المناسبة ابتداءً من العام 2008، من خلال تسليط الضوء على واقع الديمقراطيّة في العالم، والسعي لمعالجة المعوقات المختلفة التي لا تزال تعترضها، وتمنع تعميمها وتشريعها لتصبح حقَّا ملزمًا ومعترفًا به من قبل جميع الحكومات والمجتمعات في العالم.

وانّ تحديد اليوم الدوليّ للديمقراطيّة هو مساحة للشعوب لتذكير الحكومات في كلّ مكان أنّ أحد سمات الديمقراطيّات الناجحة والمستقرّة هو وجود قويّ وحرّ للمجتمع المدنيّ، والعمل معًا من أجل تحقيق الأهداف المشتركة وبناء المجتمع السليم والمعافى. فالشعب يجب أن يكتب قوانينه أو يشارك في صياغتها كونه الميدان الذي تطبّق عليه، حتّى أنّ روسو عبّر عن هذه الفكرة بقوله: " الحياة السياسيّة المشتركة يجب أن تنظّم بطريقة يكون فيها باستطاعة متلقّي القانون السائد أن يشارك في سنّه"، ومن هذا المنطلق أتت المادة 6 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 واضحة في هذا الشأن: " إنّ القانون هو عبارة عن إرادة الجمهور. فلكلّ واحد من الجمهور أن يشترك في وضعه سواء كان ذلك الاشتراك بنفسه أو بواسطة نائب عنه. ويجب أن يكون هذا القانون واحدًا للجميع. أي انّ الجميع متساوون لديه. ولكلّ واحد منهم الحقّ في الوظائف والرتب بحسب استعداده ومقدرته ولا يجوز أن يُفضّل رجل على رجل في هذا الصدد إلّا بفضيلته ومعارفه". فالممثّلون الحقيقيّون للشعب هم الذين سيسنّون القوانين التي تعبّر عن المشيئة العامة، أمّا الذين جاؤوا عبر انتخابات صوريّة فلا يمكنهم سوى سنّ قوانين تعبّر عن مصالحهم الخاصّة لا أكثر.

وفي خلاصة الحديث عن الايجابيّات إنّ الديمقراطيّة إحدى قيم الأمم المتّحدة ومبادئها الأساسيّة والعالميّة غير القابلة للتجزئة. وهي تستند إلى إرادة الشعوب التي تعبّر عنها تعبيرًا حرًا، كما أنّها تتّصل اتّصالًا وثيقًا بسيادة القانون وممارسة حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة.

سادسًا: مساوئ الديمقراطية:

إنّ الديمقراطيّة كما يجب أن تكون هي ثقافة سياسيّة، ينتمي الفرد فيها إلى مجتمع معيّن، يُسمع صوته ولو بشكل غير مباشر، وهو معني بالقرارات التي تؤثّر على حياته، وهي ليست مثاليّة انما لها سلبيّات جمّة، حيث يعتقد البريطانيّون إنّه من الضروريّ من وقت لآخر تغيير الحكومة، ليس الحكومة الفاشلة فقط، وإنــّما الناجحة أيضًا، لأنّ هذه الأخيرة إمّا أن تصبح غير فعّالة مع الزمن، أو تصبح مختالة مغرورة، فالتداول يجدّد النخب ويبعث حياة جديدة في ورشة الدولة ومؤسّساتها، لأنّ طول احتكار السلطة يقسّي جلدها، ويعدم الحساسيّة لقبول النقد. ومن هذا المنطلق قال رئيس وزراء بريطانيا (تشرشل) عن الديمقراطيّة: " هي أحسن الأسوأ  أي هذا الذي وصلنا إليه ولا بديل عندنا غيره".

وأضاف آخرون بأنّ من عيوب الديمقراطيّة اعتمادها على التشابه التام بين أفراد الشعب، فهي تقدّم الكمّ على النوع، أي تقدّم صندوق الانتخابات على صندوق (الرأس) وهذه الطريقة تقضي على كلّ تجديد، وتسدّ الطريق أمام كلّ موهبة وعبقريّة كما يقول الفيلسوف الاسباني (سانتيانا) في الاعتماد على الكمّ لا تنتفع الأمّة بأعظم رجالها وتتركهم لا يسمع بهم أحد، لأنّهم قد لا يخوضون الانتخابات، أو يخوضونها ولكن هناك من هو أقدر لسانًا منهم أو أقدر مالًا ويكون النجاح حليفه، وقد ينتخب الشعب أكثر الناس بلاهة وبلادة، وذلك لمقدرة هؤلاء على تملّق الناس ومداهنتهم، ولذلك يجب أن يحصر حقّ الترشّح في أصحاب الخبرة والعلم والمقدرة، وبذلك نغلق باب المناصب الكبيرة في الدولة أمام الدجّالين والمنافقين، وهذا ما يميل إليه (سانتيانا) حين يدعو إلى حكومة من أصحاب المواهب والشرف من الرجال، إنها أرستقراطيّة ولكنّ المجال فيها مفتوح للجميع.

ويردّد البعض الآخر بأنّ المساواة بين أصوات الناخبين هو نوع من الظلم، لأنّ مساواة من يستحقّ بمن لا يستحقّ هو الظلم بعينه، وإن كان الأصل إنّ الناس سواء في اعتبار البشريّة والحقوق العامة، مثل حقّ الحياة وحقّ العمل، والعدالة في القضاء، ولكن هذه المساواة لا تعني المساواة في المواهب والادراك. يقول عالم الإجتماع والنفس (أريك فروم): "إذا أردنا أن يكون للإنسان رأي حقيقيّ وعن اقتناع، لا بدّ من توفر شرطين: معلومات كافية، ومعرفة إنّ لرأيه قيمة وأثرًا، وإذا لم يتوفّر هذان الشرطان فلن يختلف التصويت كثيرًا عن التصفيق في مباراة رياضيّة".

تخيّل إنّك في سفينة ضخمة على متنها عدد كبير من المسافرين، بالإضافة إلى قبطان وبعض البحّارة الخبراء القادرين على قيادتها إلى برّ الأمان. وفي الوقت نفسه، قرّر الركاب أن يتّبعوا نظامًا ديمقراطيًّا في قيادة السفينة، بحيث يتم أخذ رأي الأغلبيّة في كيفيّة توجيه الدفّة ومواجهة العواصف والأمواج العاتية.

وبينما يستطيع بعض الركّاب المجيدين للبلاغة والخطابة لكنهم غير خبراء بأمور الإبحار، أن يوجهوا معظم الركاب للتصويت على قرارات غبيّة، يفشل القبطان الخبير في إدارة السفينة في إقناع الناس برأيه فقط لأنّه لا يمتلك قدرة كافية كالآخرين على الإقناع. سفينة كهذه في الغالب سوف تهوي إلى أعماق البحر أو ستظلّ هائمة على وجهها إلى ما شاء الله وسط الأمواج والعواصف.

ربّما يستغرب كثيرون حين يعرفون أن الشخص الذي يطرح هذا المثل بقصد هجاء الديمقراطيّة واصفًا إيّاها بـ"سفينة الحمقى" هو أفلاطون، أحد أهمّ الفلاسفة على مرّ التاريخ. والحقيقة إنّ أفلاطون لم يكن وحيدًا في هذا الرأي أو هذا الهجوم، بل تبعته في ذلك مجموعة من أهمّ المفكّرين.

في كتابه "قضية مرفوعة ضد الدولة الديمقراطيّة"، يحدّد الفيلسوف الإيرلنديّ جوردون جراهام ثلاث خصائص للديمقراطيّة أولاها قدرة أفراد الشعب على أن يملوا على السياسيّين الكيفية التي سيحكمونهم بها؛ والثانية قابلية أكبر عدد من الناس للمشاركة في الانتخابات؛ أمّا الخاصية الثالثة فهي أن يكون لكلّ شخص من أفراد الشعب البالغين (عدا السجناء والمجانين) الحقّ في الإدلاء بصوته وتاليًا القدرة على المشاركة في الحياة السياسيّة بغضّ النظر عن المؤهّلات الثقافيّة أو العقليّة التي يحملها. ويعزو جراهام أهم مساوئ الديمقراطيّة إلى هذه الخاصّيّة الثالثة.

يقول جراهام "إنّ الفكرة التي قدمها أفلاطون عن سفينة الحمقى تثبت إنّ الديمقراطيّات القديمة أو الحديثة تحتوي في داخلها على مشكلات غير قابلة للحلّ، حيث إنّ مشاركة جميع الأفراد في الحياة السياسيّة تعني إنّه لا بدّ أن يمتلكوا جميعهم نفس مستوى الذكاء والوعي والخبرة بالأساليب المثاليّة للحكم حتّى يمكنهم الاختيار على هذا الأساس، هذا بالإضافة إلى اتّفاقهم على نفس الاهتمامات السياسيّة في كلّ مرّة يدلون فيها بأصواتهم، وهو الشيء الذي يستحيل تحقيقه عمليًّا، ويجعل من الحكم أداة في أيدى عصبة من الجهلاء وعديمي الخبرة".

ويناقش جراهام في كتابه المذكور نوعين من الديمقراطيّة، أوّلهما هو "الديمقراطيّة الاجتماعيّة" وهي، برأيه "تعكس قدرة أغلبيّة الشعب على اتّخاذ القرار أيًّا كان نوعه. فإذا صوّتت الأغلبيّة على سبيل المثال على قتل مليون شخص، فإنّ الحكومة سوف تكون ملزمة من واقع المبادئ الديمقراطيّة بقتل هؤلاء أو على الأقلّ بمحاولة قتلهم".

أمّا النوع الثاني من الديمقراطيّة الذي يقدّمه جراهام فهو "الديمقراطية الليبراليّة" التي تطبّقها معظم دول أوروبا وأميركا اليوم، وهي نظام الحكم الذي تخضع فيه الحكومة لرأي الأغلبيّة على ألّا يضرّ هذا الرأي بالحريّات الشخصيّة للأفراد وحقوقهم، من حريّة المعتقد والتعبير عن الرأي بأيّة وسيلة سلميّة مهما كان نوعها إلى حقّ الملكيّة. باختصار هو نوع الديمقراطيّة التي تحترم حقوق الإنسان وتمنع الأغلبيّة - على الرغم من حقّهم في اتّخاذ القرار - من الفتك بالأقليّات.

وبرغم إنّ الفيلسوف الإيرلنديّ يعترف بأنّ هذا النظام يعكس أفضل نظريّات الحكم التي عرفها العالم على مرّ التاريخ، لا يمنع ذلك من وجود بعض العيوب الجوهريّة، أوّلها العيب التقليديّ الذي أشارت إليه نظريّة أفلاطون، وثانيها قابليّة هذا النوع من الديمقراطيّة للتحوّل إلى النوع السيّء لأنّ الضمانة الوحيدة لحمايته للحريّات هو احترام الحاكم لحقوق الإنسان وقدرة مؤسّسات المجتمع المدنيّ على الدفاع عنها، وهو ما يمكن الإخلال به في أيّ وقت أو حتّى تزييفه في ظلّ رضا الأغلبيّة عن هذا الخلل.

وكانت الكاتبة سوزان روم أكرمان قد تحدّثت في كتابها الصادر عام 2003 بعنوان "الفساد والحكم" عن بعض العيوب في النظام الديمقراطيّ وهي تتلخّص في قدرة الفساد على التفشّي فيه دون وجود أدوات عمليّة على أرض الواقع تستطيع منعه بالشكل الكافي.

الفكرة تتلخّص في قدرة المؤسّسات الماليّة الضخمة على التلاعب بأصوات الناخبين من خلال دفع الرشى الانتخابيّة أو تمويل الحملات الانتخابيّة لمرشّحين لمناصب سياسيّة مهمّة. وجميعنا يعرف كيف يحتاج حزب ما أو شخص ما ينوي الترشح لمنصب سياسيّ إلى تمويل حملته الانتخابيّة، وهذا يفتح الطريق للمال السياسيّ - بطرق غير قانونيّة - وقد يتحمّل عبء توفيره الأثرياء مقابل ضمان ولاء السياسيّين الآتين من صناديق الاقتراع لهم.

وبالإضافة إلى كلّ ما سبق يمكننا أن نتخيّل أيضًا كيف يمكن أن تتحكّم رؤوس الأموال بالمؤسّسات الإعلاميّة من أجل تزييف وعي الجماهير، لتكوِّن في النهاية تيارًا من الرأي العام يتوجّه بدوره للتصويت على قرارات تصبّ في مصلحة فئة تمتلك كمًّا أكبر من المال.

يمكن القول إنّ الجماعة كثيرًا ما تغفل مصلحتها الذاتيّة. هذه المشكلة جرى تناولها في كتاب سياسيّ صدر تحت عنوانThy Myth of the Rational Voter: Why  Democracies Choose Bad Policies .  أي (متاهة الناخب العاقل.. لماذا تختار الديمقراطيّات سياسات سيّئة). للمؤلّف برايان كابلان، الاقتصاديّ بجامعة جورج ميسون.

يقول كابلان انّ «الديمقراطيّات دائمًا ما تتبنّى سياسات مؤذية لغالبيّة الشعب. وهناك عدّة تفسيرات لذلك مثل سلطة المصالح الخاصّة والجهل الجماعيّ بالتفاصيل... الخ. إلّا إنّ كابلان يرى إنّ هناك ما هو أكثر من هذه الجوانب، هي إنّ الناخبين أسوأ من مجرّد الجهل. إنّهم لا عقلانيّون، ويصوّتون على هذا الأساس". «لا أرى ديمقراطيّة فاعلة ولا ديمقراطيّة سيطرت عليها مصالح خاصة. ما أراه هو ديمقراطيّات تعاني من نواقص بسبب حصول الناخبين على السياسات الغبيّة التي طلبوها".

إنّ تسليطنا الضوء على هذه الجوانب ربمّا لا يؤدّي إلى حلّ مشاكل الديمقراطيّة، ولكن ربما يساعد على تقليص الأخطاء والانحياز. يمكن عند ذلك أن يكون الناخب هناك ليس ذكيًّا فحسب في الحكم على الأشياء، بل أيضًا أكثر حكمة ورجاحة عقل في تحديد السياسة الوطنيّة.

 

الخلاصة:

إنّ الديمقراطيّة الحقيقيّة لا يمكن أن تتحقّق في غياب مؤسّسات قويّة ومستقلّة ومحصّنة دستوريًّا وقادرة على انجاز دورها في رعاية مصالح الناس وتنويرهم بالحقائق وحماية حقوقهم. ومن ضمن هذه المؤسّسات الأجهزة الإعلاميّة والمؤسّسات الدينيّة والجامعات ومنظّمات المجتمع المدنيّ والنقابات العماليّة والمهنيّة... .

إنّ وسائل الإعلام اليوم تستطيع التحكّم في (الرأي العام) وهذه الوسائل قد تشجّع الأقليّات الثقافيّة والقوميّات الصغيرة، وعندئذ يسود الفكر الرخو الذي يفتت الأمّة ويشتّت أمرها، وبعض الناس يتميّزون بسرعة التصديق، ففي معركة انتخابيّة قد يتّهم إنسان ما خصمه بأسوأ التهم، ويفتري عليه وسرعان ما يصدّق الناس هذه التهم، وقد يكون المرشّح كثير التواضع أيّام الانتخابات ثمّ لا يلبث أن يتحوّل إلى متمرّد على الضعفاء، وقد يطلق الوعود جِزافًا لإغراء ناخبيه، فإذا اختير نسي وعوده وتنصّل منها.

في الديمقراطيّات المعاصرة يرشّح أصحاب المصالح نوّابًا، ويموّلون حملتهم الانتخابيّة، ليسخّرونهم بعدئذ لمصالحهم، فالمال يلعب دورا مهمًّا، وقد حذّر من تأثيره الذي يلقبونه بأبي الحريّة (جون ستيورات مل) واعتبره من عيوب الديمقراطيّة وكذلك الجهل، حيث لا يحسن الناس الاختيار.

لقد تراجعت نسبة المقترعين في أوروبا، فهي لا تتعدّى في أحسن الأحوال نسبة 50 %  وذلك لعدم الثقة بوعود المرشّحين، وتراجعت الديمقراطيّة والحريّة لدى الحكومات الغربيّة، وشرعت تحذو حذو الحكومات المستبدّة في استخدام وسائل الدعاية والإعلام وطرق التربية في بثّ الآراء التي تريد، وكل هذا بموافقة الديمقراطيّة، ويعبّر الصحافيّ البريطانيّ (سامبسون) في كتابه (تشريح بريطانيا في الصميم) عن قلقه على الديمقراطيّة بسبب ازدياد المركزيّة في اتّخاذ القرارات وانحسار نفوذ المواطن بسبب ضعف نقابات العمّال.

وبسبب الحرص على أصوات الناخبين تقول التقارير أن السياسيّين في أمريكا أفسدوا التعليم والمدرسة، لأنّهم يراعون أولياء التلاميذ ليكسبوا أصواتهم، وهذا ممّا مكّن التلاميذ من سلطة لم يطالبوا بها، وأصبح لهم سيطرة على المدرسة.

إنّ الديمقراطيّة لا تبدأ وتنتهي في عمليّة إجراء الانتخابات فقط، وانما من خلال تمكين المواطنين من المشاركة في العمل السياسيّ. ومن غير الممكن ترسيخ الديمقراطيّة في المجتمعات حتّى تصبح في الممارسة ثقافة إلّا في ظلّ بيئة مواتية وجاذبة تقبل الاختلاف والتنوّع والحوار، وتؤمن بحريّة العمل السياسيّ وبالتعدديّة السياسيّة، وبدور فاعل لمؤسّسات المجتمع المدنيّ، وبالالتزام بقدسيّة النصوص الدستوريّة، وباحترام القانون وسيادته.

إنّ الديمقراطيّة اليوم لم تعد منّة أو ترف فكريّ كما كانت تصوّر في السابق، بل أصبحت ملازمة لحياة المواطنين جميعًا، فبدون الديمقراطيّة لن يكون هناك انتخابات أو مساءلة أو محاسبة أو فصل بين السلطات أو رقابة برلمانيّة أو تكافؤ فرص... الخ. فالديمقراطيّة اليوم تتعلّق بالعيش وبكرامة وبأمن وبمستقبل الشعوب، فلا حريّة دون ديمقراطيّة ولا ديمقراطيّة دون مشاركة ولا مشاركة دون مؤسّسات ولا مؤسّسات دون مجتمع مدنيّ واعٍ. وبالتالي فإنّ الحكم على مصداقيّة عمليّة التحوّل الديمقراطيّ يكون من خلال احترام وضمان حقوق المواطنين ومؤسّسات المجتمع المدنيّ. لذلك فإن غياب أو تغيّب أو حرف الديمقراطيّة عن مسارها يعني حرمان الشعب من المشاركة في الشأن العام ومن المشاركة في العمل السياسيّ و الدفاع عن مكتسباته.

                                                               إعداد

                                                              المحامي جوزف وانيس

المراجع:

_ ( كتاب القانون الدستوريّ والمؤسّسات السياسيّة للدكتور فؤاد بيطار طبعة 1996 صفحة 159 وما يليها)

_ الديمقراطية والأمم المتّحدة موقع الأمم المتحدة الالكترونيّ:

http://www.un.org/ar/globalissues/democracy/democracy_and_un.shtml

_ دراسات منشورة على عدة مواقع الكترونيّة تتعلّق بمفهوم الديمقراطيّة وأنواعها.

 

 

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment