التبويبات الأساسية

الجمعيّة اللبنانيّة للوساطة والتوفيق

  •  الجمعيّة اللبنانيّة للوساطة والتوفيق-0
  •  الجمعيّة اللبنانيّة للوساطة والتوفيق-1

إعداد

المحامي جوزف وانيس

دراسات عُليا في القانون الخاص

 

2015

الوساطة  الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة

المقدمة

القسم الأول: المحاكم الكنسيّة والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها.

الفصل الأوّل : المحاكم الكنسيّة.

                البند الأوّل: المحاكم الكاثوليكيّة.                                                                 البند الثاني: المحاكم الأرثوذكسيّة.

                الفقرة الأولى: الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة.                                           الفقرة الأولى: الكنائس الأرثوذكسيّة.

                الفقرة الثانية: المحكمة المارونيّة.                                                    الفقرة الثانية: محكمة جبل لبنان للروم الأرثوذكس.

                                                                                                 

الفصل الثاني: الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها.

               البند الأوّل: الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة.                                         البند الثاني: وسائل المعالجة.

                الفقرة الأولى:  مفهوم الزواج المسيحيّ.                                              الفقرة الأولى: المراحل الخمس التي يمرّ بها الزواج.

                الفقرة الثانية:  النزاعات الزوجيّة .                                                                الفقرة الثانية: المبادئ العامّة لحلّ النزاعات الزوجيّة.

              

القسم الثاني: مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها وأنواعها.

الفصل الأوّل : مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها.

               البند الأوّل: مفهوم الوساطة الزوجيّة.                                     البند الثاني: فوائد ومميّزات وقواعد الوساطة الزوجيّة.

               الفقرة الأولى: الوساطة بمفهومها العامّ.                                    الفقرة الأولى: فوائد ومميّزات الوساطة الزوجيّة.

               الفقرة الثانية: مفهوم الوساطة الزوجيّة.                                     الفقرة الثانية: قواعد الوساطة الزوجيّة ودور الوسيط.

 

الفصل الثاني: أنواع الوساطة الزوجيّة.

           البند الأوّل: الوساطة الزوجيّة خارج إطار المحاكم الكنسيّة.                  البند الثاني: الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة.

           الفقرة الأولى: الوساطة الاتفاقيّة.                                              الفقرة الأولى: مراكز الإصغاء.

          الفقرة الثانية: إحصائيّات.                                                      الفقرة الثانية: مركز للوساطة القضائيّة.

الخاتمة

المقدّمة

على امتداد العصور والأزمان يبقى الزواج حلم كلّ فتاة وشاب، ورغبة شديدة في الاستقرار والسكينة. فالزواج الناجح يُبنى على الحبّ والتفاهم والاحترام المتبادل؛ لكنَّ هذه المملكة السعيدة تواجهها في كثير من الأحيان بعض المشاكل والتحدّيات الّتي على الزوجين الاشتراك والاتّحاد معًا لمواجهتها وحلّها.

هذا، ولا تخلو أيّ عائلة أو أيّ علاقة زوجيّة من المشاكل، مهما كانت هذه العلاقة متينة وقويّة ويسودها الحبّ والتفاهم، فدائمًا ما تظهر بعض المشاكل بين الزوجين نتيجة حدثٍ معيّن أو موقفٍ لا يعجب أحد الأطراف، وهذا الأمر لا يُعَدُّ مؤشّرًا على سوء العلاقة، بل هو ظاهرة طبيعيّة لا تدعو للقلق طالما أنّ الزوجين قادران على حلّ هذه المشاكل باتّباع الطرائق والأصول الصحيحة، من دون أن تتوتّر العلاقة بينهما أو تتأزّم المشاكل.

فكيف لنا أن نتحدّى هذه الخلافات؟ وكيف يمكن حلّ الخلافات الزوجيّة؟ وما هو القضاء المختص للبتّ بالنزاعات الناجمة عنها؟ وهل من وسائل بديلة لحلّ هذه النزاعات؟

هذه الأسئلة جميعها سنتطرّق إلى الإجابة عنها في سياق بحثنا الذي يحمل عنوان " الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة"، هذه المحاكم التي يلجأ إليها الزوجان طلبًا للطلاق أو بطلان زواجهما، فتأتي الوساطة الزوجيّة لتطلق الحوار بينهما من جديد ولتُعيد الأمور إلى طبيعتها؛ لأنَّ الواقع والدراسات أثبتت أنّه عادةً تبدأ المشاكل الزوجيّة من أمور بسيطة لم يخبر أيّ طرف الآخر بها، وتدريجيًّا تتراكم لتُحدِثَ فجوةً عميقةً تجعلهما يتحدّثان عن الطلاق، وعندما يجدان فرصةً مناسبةً ليتحدّثا عمّا يضايق أحدهما الآخر تنتهي الأزمة، وكثيرًا ما يتراجعان عن فكرة الطلاق والانفصال.

وعليه، سنوزّع بحثنا الراهن على قسمين رئيسَيْنِ؛ أمّا القسم الأوّل فنتناول فيه المحاكم الكنسيّة والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها، وأمّا القسم الثاني فنعالج فيه مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها وأنواعها.

 

القسم الأوّل _ المحاكم الكنسيّة والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها

 

في زمن قريب كانت الأُسر بمنأى عن ظاهرة التفكُّك الأُسَريّ،  فالخلافات ما بين الزوجين عادةً ما كان يتمّ احتواؤها بتدخُّل من رجال الدين أو كبار العائلة أو الأصدقاء، على اعتبار أنّ البيئة الحاضنة لهذه الأسر تنتمي إلى نفس النسق المجتمعيّ المبنيّ على أواصر القرابة أو المصاهرة أو الجوار، فكانت مهمَّة إصلاح ذات البين ميسّرة ومقدور عليها، وهذا ما جعل نسب الطلاق منخفضة.

ولكن اليوم تغيَّرت الأحوال كثيرًا، وذلك بسبب تغيُّر المفاهيم والعلاقات. وبَعْدَ أنْ أغلق الزوجان عليهما باب منزلهما بدأت خلافاتهما تتعمّق يومًا بعد يوم، بحيث أصبحت تتجاوز قدرة أفراد العائلة على حلّها، ورَفْض الزوجان الاستماع إلى أيّ نصيحة منتجة قد تُؤتي ثمارها من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بينهما، لذلك كان اللجوء إلى المحاكم الروحيّة المختصّة وسيلةً لإعلان الطلاق أو بطلان الزواج، علَّ في هذه الخطوة راحة لهما ولأولادهما.

يتكلّم كثيرون عن الطلاق وأسبابه، ولكنَّ القليل يعلم كيفيّة معالجة النزاعات الزوجيّة بطرائق علميّة تُمكّن الزوجَين المتخاصمَين من إعادة وصل ما انقطع بينهما. فلا الأهل تمكّنوا من لعب دور الوسيط المصلح ولا المحاكم استطاعت سدّ الفراغ الحاصل في المجتمع، فكانت النزاعات تكبُر وتتّسِع إلى أن تفاقمت الدعاوى وكثُرَت أمام المحاكم الروحيّة المختصّة.     

فما هي هذه المحاكم الروحيّة المختصّة؟ وما هو القانون الّذي يُنظِّم اختصاصها؟ وما هي النزاعات الزوجيّة؟ وما هو مفهوم الوساطة الزوجيّة؟ أسئلة كثيرة نحاول الإجابة عنها من خلال بحثنا الراهن. وبناءً على ما تقدّم نسلّط الضوء في الفصل الأوّل على المحاكم الكنسيّة، ونتطرّق في الفصل الثاني نتطرّق فيه إلى الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها.

الفصل الأوّل _ المحاكم الكنسيّة

من المعلوم أنّه بتاريخ 2/نيسان/1951 صدر قانون تحديد صلاحيات المراجع المذهبيّة للطوائف المسيحيّة والطائفة الإسرائيليّة، وقد أوجبت المادّة 33 منه "على الطوائف التي يشملها هذا القانون أنْ تُقدّم للحكومة قانون أحوالها الشخصيّة وقانون أصول المحاكمات لدى محاكمها الروحيّة في مدّة سنة من تاريخ وضع هذا القانون موضع التنفيذ للاعتراف بها خلال ستّة أشهر على أن تكون متوافقة مع المبادئ المختصة بالانتظام العام والقوانين الأساسيّة للدولة والطوائف."

وتاليًا، وفقًا لنصّ المادّة 3 من قانون 2 نيسان 1951 يدخل في اختصاص المراجع المذهبيّة ما يلي:

" أوّلًا- عقد الزواج وأحكامه والموجبات الزوجيّة.

ثانيًا- صحّة الزواج وبطلانه.

ثالثًا- فسخ الزواج أو انحلال روابطه (الطلاق والافتراق).

رابعًا- فصل جميع المسائل المتعلّقة بالجهاز والمهر والحقّ، أي البائنة ما زالت العلاقات الزوجيّة قائمة أو تبعًا للدعاوى الزوجيّة المذكورة في هذه المادة."

وكما بات معلومًا ففي لبنان ثماني عشرة طائفة، منها المسيحيّة ومنها الإسلاميّة، وهذه الطوائف معترف بها قانونًا في لبنان ولديها قوانينها ومحاكمها الخاصّة، ولما كان بحثنا الراهن ينحصر بالمراجع المذهبيّة المسيحيّة فإنّنا سنسلّط الضوء على المحاكم الكاثوليكيّة في (البند الأوّل)، وعلى المحاكم الأرثوذكسيّة في (البند الثاني)، تمهيدًا للإضاءة على كيفيّة تفعيل الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة، هذه الوساطة إنْ طُبّقَت سوف تؤدّي إلى لمّ شمل العديد من العائلات المسيحيّة الّتي لجأت الى المحاكم الروحيّة، سعيًا لتنظيم أمورها، فرأت نفسها غارقة في أتون من الإجراءات والمحاكمات واللوائح والاستجوابات والمرافعات حتّى وصل بها الأمر إلى عدم متابعة دعاويها وفضّلت البقاء خارج القضاء كما خارج العلاقة الزوجيّة.   

البند الأول _ المحاكم الكاثوليكيّة

بعد صدور قانون 2 نيسان 1951، واستنادًا إلى أحكام المادة 33 منه قدّمت الطوائف المسيحيّة قوانين أحوالها الشخصيّة وأصول المحاكمات لدى محاكمها.

ثُمَّ إنَّ الطوائف والكنائس المسيحيّة في لبنان تنقسم إلى عدّة مذاهب، وكلّ مذهب لديه تنظيمه ومحاكمه الخاصّة، وبسبب ذلك التشعُّب سنحاول في بحثنا الراهن التطرُّق إلى تعريف الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة بلمحة عامّة، ومن ثَمَّ البحث في المحكمة المارونيّة ومحكمة جبل لبنان للروم الأرثوذكس بصورة مفصّلة، كَوْن هاتين المحكمتين تشملان على أكثرية الطلبات المقدّمة من الأزواج المسيحييّن للبت بنزاعاتهم العائليّة.

 

الفِقرة الأولى: الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة:

تنصّ المادّة الأُولى من قانون أصول المحاكمات لدى الطوائف الكاثوليكيّة على: " أنَّ هذا القانون يختصّ بالطوائف المسيحيّة الكاثوليكيّة الآتية: الطائفة المارونيّة - طائفة الروم الكاثوليكيّة الملكيّة - الطائفة الأرمنيّة الكاثوليكيّة - الطائفة السريانيّة الكاثوليكيّة - الطائفة اللاتينيّة - الطائفة الكلدانيّة.

وأضافت المادّة الثانية من القانون عينه أنّ كلّ طائفة من الطوائف المعدّدة في المادّة الأولى هي شخص معنويّ مميَّز ومستقلّ ذو أنظمة خاصّة. إلّا أنّها كلّها، بإفرادها ومجموعها، أعضاء لجسم واحد هو الكنيسة الكاثوليكيّة التي يرأسها قداسة الحبر الأعظم بابا روما. وتُؤلِّف مع هذه الكنيسة وحدة شرعيّة لا تتجزّأ."

كما أنَّه بتاريخ 18/10/1990 أصدر قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنّا بولس الثاني "مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة"، وهي مجموعة تشكّل القوانين المشتركة أو العامّة لإحدى وعشرين كنيسة، قديمها وجديدها، بما في ذلك من وثائق بابويّة شرّعت في حقول مختلفة، على أن تكمّل كلّ كنيسة منها، ذات حقّ خاصّ، هذه المجموعة بما تشرِّعه من قوانين تعود لشرعها الخاصّ. وهذه المجموعة تضمّنت أحكام سرّ الزواج وأصول المحاكمات الكنسيّة التي أصبحت نافذةً، ابتداءً من 1/10/1991، ولا يزال القانون القديم "نظام سرّ الزواج" مطبّقًا على الزيجات المنعقدة قبل نفاذ القانون الجديد. أمّا أصول المحاكمات الكنسيّة الجديد فيسري على مختلف النزاعات حتّى تلك العالقة قبل صيرورته نافذًا.

وسندًا لما تقدّم، إنّ الطوائف المذكورة أعلاه باستثناء الطائفة اللاتينيّة تُطبِّق مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، وكلّ طائفة لديها محاكمها الخاصّة، كمحكمة الروم الملكيّين الكاثوليك ومحكمة الأرمن الكاثوليك والمحكمة المارونيّة ... . وعليه، إنّنا سنتطرّق بشكلٍ خاصّ إلى المحكمة المارونيّة في زوق مصبح كونها المحكمة الوحيدة التي تنظر في جميع النزاعات الزوجيّة في لبنان، مع الإشارة إلى أنّه فيما يختصّ بأحكام سرّ الزواج وأصول المحاكمات الكنسيّة فهي تتبع مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة كما نوهّنا آنفًا.

الفِقرة الثانية: المحكمة المارونيّة:

تعتبر المحكمة المارونيّة، في ذوق مصبح، المحكمة الوحيدة للموارنة في لبنان، وقد بلغ عدد دعاوى بطلان الزواج فيها 179 دعوى في العام 2006، فيما بلغ عدد دعاوى الهجر 48 دعوى. وفي العام 2007، بلغ عدد دعاوى البطلان 245 دعوى، والهجر 47 دعوى. وفي العام 2008، بلغ عدد دعاوى بطلان الزواج 261 دعوى، ودعاوى الهجر 29 دعوى، مع الإشارة إلى أنّه لا يتمّ طلاقٌ لدى المحكمة المارونيّة وإنّما بطلان زواج، وهي تعتمد على ثلاثة أسباب رئيسة تؤدّي إلى البطلان، وهي: موانع الزواج، والرضى الزوجيّ، وصيغة الزواج.

تطول الموانع، الفوارق الكبرى في العمر والعجز الجنسيّ أو النفسيّ أو المرضيّ، واختلاف الدين والخطف القسريّ وقتل الزوج أو الزوجة وقرابة الدم أو القرابة الروحيّة والشرعيّة، ومانع الوفاق هو ألّا يكون متزوّجًا في الكنيسة.

وتحت عنوان الرضى الزوجيّ، تندرج المشاكل النفسيّة وعدم إدراك جوهر الزواج والغلط في الشخص والصفة والغشّ والتلجئة، أي إضمار أمر لغايات منافية لطبيعة العلاقة الزوجيّة، مثل رغبة أحد الزوجين بعدم إنجاب الأولاد من دون الإعلان عن تلك الرغبة قبل حصول الزواج.

وتحت صيغة عقد الزواج، تندرج نواقص في شروط العقد الصحيحة، مثل عدم إقامة رتبة مقدّسة أمام رئيس أو كاهن ذي صلاحيّة بحضور إشبينين، والزيجات المختلطة أمام كاهن غير كاثوليكيّ.

تجدر الإشارة إلى أنّه بتاريخ 29/1/2015 عقد المشرف على المحاكم المارونيّة وعلى توزيع العدالة فيها المطران حنّا علوان مؤتمرًا صحافيًّا في المركز الكاثوليكيّ للإعلام شارك فيه رئيس المحكمة الابتدائيّة المارونيّة الموحّدة المونسنيور نبيه معوّض، تناولا فيه واقع وأوضاع المحاكم المارونيّة حيث قال المطران علوان:

 "... إنَّ الزواج سرّ من أسرار الكنيسة السبعة وهو عندما يتعاهد شخصان على تأسيس عائلة مسيحيّة صالحة، والكنيسة تُبارك الزواج، وهي مسؤولة عن الزواج وحياة الزوجين، وهذه الصلاحية محصورة بالسلطات الدينيَّة"، مشيرًا إلى أنَّ "هناك فرقًا بين الديانات والكنائس، والكنائس الكاثوليكيّة تتبع قانون واحد، كلّ مؤمن لجأ إلى الكنيسة له الحقّ في اللجوء إليها وهي تُعطيه حقّه، والبطريرك هو القاضي الأوّل، ولا يُمكنه الاستماع إلى كلّ الناس، ويجب تأسيس محكمة للنظر بقضايا الزواج، ومن أجل ذلك هناك محاكم روحيّة".

تابع المطران علوان "من واجبات الكاهن الّذي زوّج الشخصين أن يتدخّل وقت المشاكل، وواجبات الكاهن والأهل إصلاح الأمور، وإذا لم يتمّ الصلح يجب أن تمرّ المشكلة عند المطران المسؤول عن أبرشيّة الزوجين، وهناك مراكز اصلاح لإيجاد طرائق تجمع الشخصين، وإذا لم يعد هناك حلول يتمّ تحويلها من المطران إلى المحكمة الروحيّة".

وأضاف المطران علوان أنّ "البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يطلب دائمًا العجلة في الملفّات والتدقيق في ما خصّ المحاكم الروحيّة، وهو مشرف، وعلى علم بكلّ ما يحصل في المحكمة الروحيّة"، مُشدّدًا على أنّ "للكنيسة قانونًا وعلينا تطبيقُه"، ومشيرًا إلى أنّ "ليس لدينا أمر مُخبّأ، نحن نقول الحقّ والحقّ يُحرّرنا، ولا نهتمّ فقط بإبطال الزواج، إنّما نهتمّ بوضع العائلة ونحن نتدخّل بمواكبة الأولاد؛ لأنّ همّنا الأساسيّ هو العائلة ككلّ، لافتًا إلى أنّ "لدينا أكثر من 300 دعوى طلاق كلّ سنة، و 60 شخصًا فقط يعملون لهذه القضايا، وكلّ قضيّة تتطلّب عمل 15 شخصًا".

واختُتِمَ المؤتمر بكلمة للمونسنيور نبيه معوّض عن الإبطاء في الدعاوى فقال:

"سنة 2014،  أصدرنا 312 حكمًا ونحن سبعة قضاة، وقد أجرينا إحصاءات في محاكم روما وكندا وأستراليا فليس لديهم هذه النسبة من الأحكام. في المحكمة الابتدائيّة تنتهي الدعوى خلال سنة وبالاستئناف خلال 6 أشهر، والدعاوى الأخرى الّتي لا تشمل خصومة ولا يوجد أولاد تأخذ 3 إلى أربعة أشهُر وتنتهي، لكنَّ الصعوبة تكون إذا كان هناك أولاد وهذا يشمل المشاهدة، والنفقة، والحراسة فتأخذ مدّة أطول، وهناك دعاوى يكون فيها أحد الطرفين لا يريد إنهاء الدعوى لكي لا يتزوّج الطرف الآخر، فالمحكمة غير مسؤولة عن إبطاء الدعوى. والعمل يتراكم علينا إذا ترك أحد القضاة منصبه."

هذه لمحة عن المحاكم الكاثوليكيّة بصورة عامّة، وعن المحكمة المارونيّة بصورة خاصّة؛ أمّا الآن فنُلقي الضوء على الكنائس الأرثوذكسيّة بصورة عامّة ونتطرّق إلى محكمة جبل لبنان للروم الأورثوذكس والقانون الذي ينظّم محاكمها وأصول المحاكمة لديها.

 

 

 

البند الثاني _ المحاكم الأرثوذكسيّة

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المحاكم الأرثوذكسيّة لا تتبنّى قانونًا واحدًا لأصول المحاكمة لديها كما هو معمول به أمام المحاكم الكاثوليكيّة، وتاليًا، كلّ طائفة أرثوذكسيّة لديها قانون للأحوال الشخصيّة ومحكمتها الخاصّة.

ونبحث في الفقرة الأولى (الكنائس الأرثوذكسيّة)، وفي الفقرة الثانية نتطرّق إلى أكبر المحاكم الأرثوذكسيّة (محكمة جبل لبنان للروم الأرثوذكس) الواقعة في منطقة برمّانا.  

 

الفقرة الأولى: الكنائس الأرثوذكسيّة:

كما ذكرنا آنفًا أنّ الكنائس الأرثوذكسيّة لا تُطبِّق نظامًا واحدًا للأحوال الشخصيّة فكلّ طائفة أرثوذكسيّة لديها قانونها ومحاكمها الخاصّة.

 1_ نبدأ بكنيسة الروم الأرثوذكس حيث أقرّ المجمع المقدّس بتاريخ 16/10/2003 قانون الأحوال الشخصيّة وأصول المحاكمات لدى بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وهذا القانون يحدّد اختصاص المحاكم وأسباب الطلاق والزنى والهجر وما يتفرّع عنها، علمًا أنّ هذا القانون أحال في الكثير من أحكامه إلى قانون أصول المحاكمات المدنيّة الذي يُطبَّق على النزاعات المدنيّة الصِّرف، حيث تنصّ المـادّة 30 من القانون 16/10/2003 على أنّ الاعتراض على الأحكام الغيابيّة وكلّ ما لم يرد نصّ عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى أحكام أصول المحاكمات المدنيّة.

 2_ أمّا بالنسبة للأقباط فيوجد قانون الأحوال الشخصيّة وأصول المحاكمات لدى طائفة الأقباط الأرثوذكس في لبنان الذي تمّ نشره في الجريدة الرسميّة العدد 45 - الصادرة بتاريخ 31 أيلول 2010، وقد جاء في المادّة الأولى من الكتاب الأوّل أنّ: " تكوَّن القضاء الروحيّ لطائفة الأقباط الأرثوذكس في لبنان، من محاكم الدرجة الأولى، أي الابتدائيّة، ومن محكمة الدرجة الثانية أو الاستئنافيّة؛ وجميعها تخضع لقانون الأحوال الشخصيّة وأصول المحاكمات لطائفة وكنيسة الأقباط الأرثوذكس. هذا، وتسري أحكامهما على جميع الأشخاص التابعين للكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة من دون النظر إلى تابعيّتهم أو جنسيّتهم."

وأضافت المادّة الرابعة من الكتاب الأوّل إلى ما سبق أنّ: "لمحاكم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة نظامًا وأصولًا خاصًّا بها، أدرج في هذا القانون بموجب قرار من مطران الأبرشيّة رئيس أساقفة الكرسيّ الأورشليميّ والشرق الأدنى، والتابعة له الكنيسة القبطيّة في لبنان بوصفه راعيًّا للأبرشيّة، وله وحده فقط يعود حقّ تعديله أو تفسيره عند الاقتضاء".

3_ وبَعْدُ، نلاحظ قانون الأحوال الشخصيّة للطائفة الشرقيّة الآشوريّة الأرثوذكسيّة في لبنان الصادر بقرار  مجلس الوزراء رقم 39 - تاريخ 9/7/1997 حيث جاء في المادّة 167 منه أنّ: " المحاكم البدائيّة الروحيّة تكون في مركز المطرانيّات وتكون في مركز البطريركيّة محكمة بدائيّة أيضًا لسماع الدعاوى التي ضمن مركز دائرتها. وأضافت المادّة 169 أنّه "يترأس المحكمة الروحيّة البدائيّة في مركز كلّ أبرشيّة من أبرشيّات الطائفة الشرقيّة الأشوريّة مطران الأبرشيّة بصفه قاضيًا منفردًا ".

4_ أمّا المادّة الأولى من قانون أصول المحاكمات للطائفة الأرمنيّة الأرثوذكسيّة فقد نصّت على: " أنّ التنظيم القضائيّ للطائفة الأرمنيّة الأرثوذكسيّة ودرجات المحاكمة محدّدة في النظام الأساسيّ للطائفة المصدّق بموجب الفرمان المؤرّخ في 17 آذار سنة 1863. وأضافت المادّة 2 من القانون عينه أنّه تشكّل في كلّ مطرانيّة تابعة لسلطة كاثوليكوسيّة (بطريركيّة) كيليكيا: محكمة بداية تنظر بالدرجة الأولى في كلّ الدعاوى التي تدخل في اختصاص المحاكم المذهبيّة للطائفة الأرمنيّة الأرثوذكسيّة ومحكمة استئناف تنظر استئنافًا في كلّ الدعاوى المحكوم بها من قبل محكمة البداية والمستأنفة.

5_ كما يوجد قانون الأحوال الشخصيّة للسريان الأرثوذكس والّذي يُشابه قوانين الطوائف الأرثوذكسيّة المنوّه عنها آنفًا.

وفي الحديث السابق، قدّمنا للقارئ تعداد للكنائس الأرثوذكسيّة وقوانين أحوالها الشخصيّة؛ أمّا الآن فنتطرّق إلى أهمّ المحاكم الأرثوذكسيّة، ألا وهي محكمة جبل لبنان للرّوم الأرثوذكس في برمّانا.  

 

الفقرة الثانية: محكمة جبل لبنان للرّوم الأرثوذكس:

تُعتبر محكمة جبل لبنان للرّوم الأرثوذكس، الواقعة في برمّانا، الأكبر بين المحاكم الأرثوذكسيّة، لأنّها تشمل نسبة ما يُقارب الخمسين في المئة من المواطنين الأرثوذكس. ويقول رئيس المحكمة الأب إبراهيم سعد، في مقابلة له مع جريدة السفير - العدد تاريخ 12/8/2009 إنَّ "عدد الدعاوى خلال السنوات الخمس الماضية كان متساويًا تقريبًا، ويتراوح بين مئة وثلاث وعشرين ومئة وخمس وعشرين دعوى سنويًّا، بينما كان قبل هذه السنوات أقلّ بكثير، وقد بلغ عدد الدعاوى الخاصّة بفسخ الزواج وبطلانه ما يُقارب الخمسين دعوى سنويًّا ".

وأضاف أنّه سبق أنْ أفادت المحكمة إلى إدارة النشرة البطريركيّة (العدد السابع من عام 2006) عن بعض المعلومات فيما يتعلّق بالمحكمة الروحيّة. زِدْ على ما سبق نَشرُه، أنَّ المحكمة تُقدِّم مع نهاية العام 2006 المعلومات الآتية عن الدعاوى: لقد تمّ تسجيل /95/ دعوى خلال عام 2006، بينما تمّ تسجيل /81/ دعوى خلال عام 2005. وتمّ فصل /65/ دعوى يعود تاريخها إلى أعوام 2005 وما قبل، وهي على الشَّكل الآتي: (ردّ دعوى: 9)، (هجر: 4)، (فسخ زواج: 18)، (نفقة زوجيّة ونفقة أطفال: 13)، (متابعة زوجيّة: 3)، (إبطال زواج: 3)، (طلاق لعلّة تغيير الدين: 1)، (إكساء حكم مدنيّ: 5)، (تعويض: 4)، (تثبيت زواج: 2)، (زيادة نفقة: 2)، (تعديل إرادة: 1). كما تمّت مصالحة الزوجين والعودة إلى الحياة الزوجيّة المشتركة في /13/ دعوى، وشطبت دعوى بسبب عدم حضور الطرفين ودعوى أخرى بسبب وفاة الزوج المدّعي.

هذه لمحة مقتضبة عن المحاكم الكنسيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيَّة والمحكمتين الروحيَّتين الكنسيّتَين الكُبرَيَيْنِ في لبنان، فماذا عن الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها؟

الفصل الثاني _ الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها

لا يُمكن الحديث عن وساطة زوجيّة ناجحة من دون أن يَعي الوسيط ماهيّة النزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها. فمن الأمور التي عليها شبه إجماع، تلك المتعلِّقة بضرورة تمتُّع الوسيط بجميع تفاصيل الأسرة ومشاكلها، ويُفَضَّل أن تكون له تجربة في الحياة، ومنفتحًا على المجتمع، ومُطّلعًا على قضاياه لفهم قضايا المتنازعين بصورة أوضح، وينبغي أنْ تتوافر في شخصِه روح التعاون، والقدرة على إبداع الحلول، إلى جانب استعداده لربط علاقات بوسطاء آخرين، وذلك للاطّلاع على تجارب أخرى تُكسبه مهارات جديدة يستخدمها في حلّ النزاعات.

وفي كثيرٍ من الأحيان، نتحدّث عن النزاعات الزوجيّة، تلك النزاعات الّتي توتّر العلاقة الزوجيّة وتؤدّي بالزوجين إلى طلب الطلاق أو بطلان الزواج. ولكي نُغني بحثنا الراهن، علينا الإضاءة على النزاعات الزوجيّة بشكلٍ عام، ونلفت الانتباه إلى كيفيَّة معالجتها، ولو بصورة مقتضبة، كَون هذا الأمر ضرورة مهمّة كي يعرف الوسيط كيفيّة القيام بمهامه عند عمله على الوساطة بين الزوجين المتنازعين.

ولكن، قبل البحث في النزاعات الزوجيّة، علينا الإشارة إلى الزواج المسيحيّ بحدّ ذاته، لنعود إلى بحث النزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها. 

وهكذا، نبحث الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة في (البند الأوّل)، ومن ثمّ وسائل معالجة

النزاعات الزوجيّة في (البند الثاني).

 

 

البند الأوّل _ الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة

إنَّ الزواج الكنسيّ هو سرّ وله مفهوم دينيّ (الفقرة الأولى)؛ لكنّ النزاعات الزوجيّة أدّت إلى تفكُّك العائلة المسيحيّة (الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: مفهوم الزواج الكنسيّ:

الزواج الذي يجمع رجلًا وامرأة، يتخطّى كَونَهُ عملًا بيولوجيًّا محضًا، أو عقدًا إجتماعيًا، إنَّه في جوهَره حبٌّ ومَقدِسٌ للحُبّ. فالزواج المسيحيّ عهدُ حُبٍّ وحياة، ويعني ذلكَ أَنَّ الله الذي خلق الإِنسان عن حُبّ، يَدعوهُ إلى هذا الحُبِّ بالذّات. ويهدِفُ، عهدُ الحُبِّ والحياة، إلى التَّعاون المتبادل من أجل خيرِ الزَّوجين، والأولاد الذين يُوكِلُ اللهُ إليهما رعايتهم.

والجدير ذكره أنَّ الكتاب المقدّس وفي صفحاته الأولى نوّه بأهميَّة الزواج والعائلة لِبَني البشر: "إذ لا يحسنُ أن يكون الإنسان وحده"(تك2\18). الله لَم يخلُق الإنسان وحيدًا "فمُنذ البدء ذكرًا وأُنثى خلقهُما"(تك1\27). "وإنَّ هذه الشركة بين الرجُل والمرأة لهي التعبير الأوّل عن شَرِكة الأشخاص واتّحادهما... فالإنسان، بأعماق طبيعته، هو كائن اجتماعيّ لا يستطيع أن يحيا ويُنمّي مؤهّلاته من دون أن يُقيم علاقات مع الآخرين.

كما أنّ مفهوم الزواج في الدين المسيحيّ هو سُنّة مقدّسة من الله تعالى، بل قُلْ هو رباط روحيّ يرتبط فيه رجل واحد بامرأة واحدة، ويُعرف هذا الرباط بالزواج، الذي يتساوى فيه كلّ من المرأة والرجل فيكون كُلٌّ منهما مساويًا الآخر ومكمّلًا له، وذلك بحسب شريعة الله القائلة: "لذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلتصق بامرأته ويُكوِّنان جسدًا واحدًا ". (تكوين 24:2). فكلمات الله عزّ وجلّ تعني أنّه عندما يقترن رجل بامرأة فهو يُكمّلها وهي تُكمّله، ويذوب كيان كلّ واحد منهما بالآخر في المحبّة المتبادلة والتفاهُم.

وكما بات معهودًا، فالمسيحيّون يتزوّجون كسائر الناس، ولكنَّ زواجهم لا يُشبه زواج سائر الناس:" أمّا نحن فلا نقترن اقتران الأمم الّذين لا يعرفون الله"(رتبة الزواج): إنَّه سرّ.

هذا، ويعني السرّ حضور الله ونعمته: "هو فادي الإنسان، عروس الكنيسة، يأتي لملاقاة الأزواج المسيحيّين: فيمكث معهم، ويُعطيهم القوّة ليتبعوه في حمل صليبهم، وينهضوا من سقطاتهم، ويغفر الواحد للآخر، ويحمل الواحد أثقال الآخر، ويتحابّوا حبًّا  خارقًا  وحسّاسًا  وخصبًا"( المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم 11و41). وبفعل سرّ الزواج ينال الزوجان هبة النعمة من المخلّص، "وهي تُكمّل حبّهما، وتُوطّد وحدتهما، وتُقدّسهما في حياتهما الزوجيّة وفي قبول البنين وتربيتهم" (المرجع المذكور)، "كما أنّها تُغذّي الفضائل المسيحيّة كالثقة بالله والاتِّكال على عنايته وروح العفَّة والمسامحة والتضحية" (موضوعات لتحضير الزواج في أبرشيّة جبيل المارونيّة ص6-7). ( الخوري طوني الخوري مقالة منشورة على الموقع الإلكترونيّ لأبرشيّة جبيل المارونيّة).

إنّ المعتقدات السائدة في الزواج هذه الأيّام، تثير انتباه الكثيرين إلى سؤال مهمّ هو الآتي: ماذا يحدث للعائلة؟ فمشاكل الزواج الكثيرة معروفة لديهم وتُقلقهم من جهة الزواج، وتتضمّن هذه المعتقدات:

  • تزايُد نسبة الطلاق.
  • تزايُد أعداد المحجمين عن الزواج.
  • انقسام حياة أعداد كبيرة من الأطفال بين بيتَي والدَيهم المنفصلين.
  • تزايُد حالات الارتباط الجنسيّ قبل الزواج، وحالات الخيانة الزوجيّة.
  • الارتفاع المتزايد في مستوى استخدام العنف في العائلات، وهذا الاعتقاد يسود في العلاقات الزوجيّة بنسبة سنويّة مرتفعة.

وعلى الرغم من هذا الوضع المأساويّ للزواج في العالم، تتزايد الآمال بأنّ العلاقة الزوجيّة يُمكن أن توفّر الاكتفاء المطلوب والسعادة الغامرة على امتداد الحياة. وهذا لا يتناقض مع كون معظم الروابط الزوجيّة تُعاني حالات عدم الرضى ومشاعر عدم السعادة من وقتٍ الى آخر. فمَن منّا لم يشعر بألم النزاعات الّتي كانت لتُؤدّي إلى الغربة والانقسام في البيت الزوجيّ لو لم نسارع إلى معالجتها؟ تلك النزاعات التي تنشأ بسبب المشاعر المجروحة، أو الكبرياء، أو الوحدة.

فما هي هذه الخلافات والنزاعات؟

الفقرة الثانية: النزاعات الزوجيّة:

يعترف الجميع بأنَّ لتماسك العائلة وتضامنها الفضلَ الكبير في الحفاظ على الوطن حتّى في أصعب المراحل التي تمرّ بها العائلة. ولكن للأسف تُطالعنا اليوم ظاهرة جديدة تمسّ بعض العائلات، ألا وهي التفكُّك العائليّ. فبدلًا من مواجهة صعوبات الحياة اليوميَّة معًا، نرى أزواجًا يختارون الهجر والانفصال، أو يلجأون إلى طوائف وأديان أخرى، سعيًا وراء الطلاق أو بطلان الزواج. ويعود ذلك إلى أسباب شتّى منها الانجراف وراء روح العالم الداعية إلى الفرديّة والأنانيّة، بعيدًا عن كلّ استعداد للتضحية، ومنها سوء فَهْم سِرّ الزواج المسيحيّ كعهدٍ مقدّس. ولا أحد يجهل ما يُعانيه جميع أفراد هذه العائلات، لا سيّما الصغار منهم، من جرّاء هذا التفكُّك والأوضاع المؤلمة الّتي يفرضها.   

ثُمَّ إنّ الخلافات والمشاكل بين الأزواج طبيعيّة الحدوث، ولا يكاد يخلو أيّ منزل منها. وبغضّ النظر عن الأسباب والعوامل الّتي تُسبّب هذه الخلافات، إلّا أنّ مواجهتها ومحاولة فهم الأسباب وإيجاد الحلول المناسبة والّتي تُرضي الطرفين يُعَدُّ الحلّ الأسلم لضمان بقاء المملكة الزوجيّة على قوّتها واتّحادها. والجدير بالذّكر أنّ أسباب الخلافات الزوجيّة تكاد تكون موحّدة في كلّ مكان وفي مختلف الثقافات، وهي قديمة بقدم العلاقات الإنسانيّة، ومن أشهرها:

أ - المال: ظروف الحياة الصعبة والمتطلّبات الكثيرة الّتي يسعى الزوجان لتأمينها من أجل الحفاظ على حياتهما المشتركة، قد تكون أحد أسباب الخلافات، وهي من المشاكل التي لا يمكن حلّها بدون تفهُّم الطرفين للواقع الّذي يعيشانه، وإيمان كلّ منهما بجهد الآخر في تأمين أفضل حياة ممكنة لكليهما، من حيث ضبط النفقات والتأقلم مع الموارد، أو تحصيل المال.

ب - الغَيرة المُبالغ بها :تُعدُّ الغيرةُ لدى أحد الزوجين أو كليهما أكبر محرّكات الخلافات الزوجيّة، هذا أمر بديهيّ في الطبيعة البشريّة، وطَبْعٌ لا يمكن تغييره بسهولة، ولكنْ يُمكن التخلُّص منه بطريق مراعاة مشاعر الطرف الآخر والابتعاد عن مُسبِّباتها.

ت - عدم الواقعيّة: إنَّ التصوُّرات الخاطئة أو الخياليّة عن الحياة والمستقبل تُعدّ من المشاكل التي غالبًا ما تعترض الأزواج، فالشابّ والفتاة أحيانًا كثيرة يعيشان في عالمٍ من الأحلام الورديَّة، ويتصوَّران أنَّ المستقبل سيكون جنَّة وارفةَ الظِّلال كما في القصص الخياليَّة، حتّى إذا دخلا دنياهما الجديدة باحثَين عن تلك الجنّة الموعودة فلا يعثران عليها، فيلقي كلّ منهما اللوم على الآخر محمّلًا إياه مسؤولية ذلك الفشل. لتبدأ بعد ذلك فصول من النزاع المرير الذي يُفقد الحياة طعمها ومعناها. فكلٌّ يتّهم الآخر بالتقصير.

ث - اختلاف الأولويّات وعدم التوافُق: تسبِّبُ الاختلافات الكبيرة بين الأزواج خلافات دائمة، وبخاصةٍ فيما يتعلّق بالهوايات، والطعام المفضّل، والعادات اليوميّة، كذلك هو الأمر نسبةً إلى اختلاف كلّ من الزوج والزوجة في رؤيته الشخصيّة لتربية الأطفال. إنّ الحياة المشتركة تعني أهدافًا مشتركةً في كلّ ما هو مشترك، واختلاف الأوّليَّات لدى الأزواج، والّتي قد تتعارض بعضها مع بعض قد تكون سببًا لكثير من الخلافات، وهنا على الأزواج حلّ هذا النوع من الخلافات بالدراسة الجدّيّة بُغيةَ وضع أهداف مشتركة، وسُلَّم أولويّات مشترك لتفادي هذه الخلافات.

ج - الإجهاد والضغط النفسيّ: إنَّ الإجهاد والضغط النفسيّ الّذي يتعرّض له أحد الطرفين أو كلاهما بسبب العمل أو أعمال المنزل أو حتّى رعاية أفراد الأسرة قد تكون سببًا لكثير من الخلافات بين الأزواج، فتلك النفسيّة المثقلة بالهموم تكون قابلة للدخول في الصراع لأتفه الأسباب، والحلّ هنا محاولة الفصل بين العمل والمنزل إذا كانت الضغوط خارجيّة، وكذلك تقدير كلّ من الطرفين جهد الآخر وامتصاص غضبه، بهدف إنهاء الخلاف قبل أن يبدأ.

ح - قضاء وقت طويل خارج المنزل: إنَّ قضاء وقت طويل خارج المنزل هو استهتار بقيمة الحياة المشتركة، ومن المتوقّع للطرف الآخر أن يرفضه ممّا يوقع الخلاف. وتاليًا، لا تعني الحياة الزوجيّة القضاء على الخصوصيّة الفرديّة، ولكنّها تُعطي قيمةً ووقتًا للمشاركة مع الطرف الآخر، والحلّ يكمن في أن يحقّق كلا الطرفين التوازن ما بين حياته الشخصيّة المنفردة وحياته المشتركة مع الطرف الآخر، وبصورة تكون مُرضِية لكليهما.

خ - عدم التسامح: أن نتصوّر الزوج أو الزوجة إنسانًا معصومًا عن الخطأ لهو أمر بعيد عن الصّحة والواقع. فالإنسان مخلوق يُخطئ ويُصيب، بالرغم من سعيه الدائم نحو الكمال والتكامل ومحاولة الحدّ من الأخطاء. يجب أنْ يعرف كلا الزوجين أنّ احتمالات الوقوع في الخطأ موجودة دائمًا في الحياة الزوجيّة. وهذا أمر طبيعيّ جدًّا. فإذا صدر خطأ ما من أحدهما فالأمر لا يستحقّ تقريعًا أو لومًا يُعكّر صفو الحياة. إنّ عدم وجود حوار مستمرّ بين الزوجين، إضافةً إلى عدم مناقشة ما يمكن أن يكون تَسبَّبَ في حزن أحد الطرفين، وقيام الزوجين بمناقشة الأمور فيما بينهما بصوت مرتفع، حيث تكون المناقشة حادّة للغاية، هي أمور قد تصل إلى مرحلة توجيه الإهانة إلى أحد الطرفين.

د - التوقّعات المغايرة: أن تكون توقّعات كلّ منهما مبالغ فيها، فيظنّ الزوج أنّ الزوجة سوف تكون الزوجة والعشيقة والأمّ والأخت، وهي لا تستطيع تقديم هذا دفعة واحدة ويكون الأمر عينه في أن تتوقّع الزوجة من زوجها أن يكون الزوج والأب والأخ والصديق، في حين لا يستطيع تقديم هذا لها أيضًا، وهنا يحدث الصدام بينهما.

ذ - تدخُّل الأهل والتقصير: التدخُّل المستمرّ لأهل الطَرفين في حياتهما حتّى في أبسط الأشياء ممّا يُعطي كلّ مشكلة حجمًا أكبر من حجمها الحقيقيّ. ويبقى الشيء المهمّ والمسؤول عن توتّر العلاقة بين الزوجين، هو تقصير كلّ منهما في حقّ الآخر نسبةً إلى الحياة، فمع مرور الوقت يغفل كلّ منهما حقَّ الطرف الآخر في الحياة الرومانسيّة والعلاقات الحميمة، ممّا يؤثّر سلبًا على شكل العلاقة الأُسريّة فيما بينهما.

وعلى ما ذكر رئيس محكمة جبل لبنان للرّوم، الأب إبراهيم سعد، ( جريدة السفير، العدد تاريخ 22/8/2009)، فإنّ أبرز الأسباب التي تؤدّي إلى نشوب الخلافات الزوجيّة هو كَذِبُ الزوجَين أحدهما على الآخر في أمور خاصّة بالوضعَين الماليّ والاجتماعيّ، والعلاقات خارج الزواج، في حين يُعتبر الزواج في المسيحيّة سرًّا مقدسًّا، يعتمد بالدرجة الأولى على كشف كلّ من الزوجين ذاته أمام الآخر.

وفي تراتبيَّة أسباب الخلاف، يلي ما سبق انتشار الأمراض النفسيّة التي تؤثّر على حياة الزوج والزوجة والأولاد، وتأثير الأهل على الرجل أو المرأة في بعض الحالات، وخاصّة الأم: «فهناك رجال يتأثّرون بكلام أمّهاتهم عن الزوجة، فيما يتبيّن أنّ غالبيّة الحالات التي تتأثّر فيها المرأة بكلام أمّها تنتج من الوضعيّة المسيطرة للأمّ داخل عائلتها.

ومن الأسباب أيضًا، نذكر الفتور في العلاقة الزوجيّة نتيجة تعلُّم المرأة وشعورها بالاستقلاليّة، وأحيانًا، التفاوُت في المستوى المهنيّ بين الزوجَين، لصالح المرأة. أمّا موضوع ضَرْبِ الرَّجل زوجته فيَعتبره الأب سعد من أسباب الخلاف التي لا تخضع للمستوى الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ، وقد أصبح لدى المحكمة قناعة من خلال التجربة بأنّ تكرار ضرب الزوجة ناتج من مشكلة نفسيّة.

كذلك، يُلاحظ «وجود انحرافات جنسيّة لدى الرجال يجري كشفُها خلال الدعاوى، ويعيش هؤلاء حياتهم الزوجيّة في حالة كبت للمشاعر، لأنّ القوانين الاجتماعيّة والدينيّة تفرض على الرجل الزواج من امرأة وإنجاب الأولاد، ليعلن بعد حين أنّه لم يعد راغبًا بزوجته. أمّا ما تبقّى من أسباب فأبرزها يتعلّق بالفقر وغياب فُرَص العمل وتعاطي المخدّرات والكحول والقمار والخيانات الزوجيّة المتبادلة، وقد أصبحت أكثر قابليّة للكشف.

وكما لاحظ القارئ، فإنّ ما عرضنا هو تعداد للمشاكل والنزاعات الزوجيّة، فماذا عن وسائل معالجة هذه المشاكل وإمكانية تجنُّبها؟

البند الثاني _ وسائل المعالجة

قبل التطرُّق إلى وسائل معالجة النزاعات الزوجيّة، يتحتّم علينا الإضاءة على المراحل الخمس الّتي يمرّ بها الزواج (الفِقرة الأولى)، لنعود إلى الحديث عن وسائل النزاعات الزوجيّة (الفِقرة الثانية).

الفِقرة الأولى: المراحل الخمس التي يمرّ بها الزواج:

على الرغم من عدم وجود قواعد عامّة للمراحل التي يقطع بها الزواج، إلّا أنّه من المؤكّد أنّ بعض العوامل – سواء أكانت خارجيّة أم داخليّة - تخلق أوضاعًا خاصّة. فعلى سبيل المثال، إنّ وَضْع المتزوِّجين حديثًا، إذ لا أبناء لديهم بَعْدُ، ليس مطابقًا لوضع المتزوّجين منذ عشرين سنة ولديهم أبناء في عمر الشباب. لذلك، من المفيد جدًّا للأزواج أنْ يُحدّدوا المرحلة التي يعيشونها، والمراحل المقبلة، ليحولّوا التحدّيات إلى فرص للتحسين. نذكر في ما يلي المراحل الخمس التي يمرّ بها الزواج:

 _ المرحلة الأولى: الانتقال والتكيُّف: تشمل تقريبًا سنوات الزواج الثلاث الأولى. إنّها مرحلة أساسيّة نظرًا إلى أنّ ركائز العلاقة أو أُسُسَها تُبنى خلالها. في هذه المرحلة، يتكيّف الزوجان مع نظام حياة جديد. لذلك، يُعتبر التواصل والتفاوُض مِفتاحَي هذه المرحلة. ومن المهمّ أنْ يضع الزوجان مخطّطًا عائليًّا يتطلّعان من خلاله إلى المستقبل ويُحدّدان الأهداف التي يرغبان في تحقيقها، كأنْ يختبر الزوجان إدارة الأموال والوقت، وتوزيع الواجبات المنزليّة فيما بينهما. من المؤكّد أنها مرحلة قرارات واتّفاقات.

_ المرحلة الثانية: التأسيس وإنجاب الأطفال: تمتدّ بين سنوات الزواج الثلاث والعشر تقريبًا. بعد اكتمال شهر العسل وعمليّة التكيُّف، تصبح معرفة الشريك أفضل وأوضح، ومن المحتمل أن تكون الخلافات قد ازدادت؛ أو بالعكس نقصت نتيجة النضوج المكتسب من مرحلة التعايُش الأولى. في هذه المرحلة، يستقرّ الزوجان؛ فيكون العقل رفيقًا للمحبّة أكثر من العاطفة. وتؤدّي الإرادة دورًا أساسيًّا في مُعادلة الالتزام والتفاهُم.

ثمّ يتحوّل معظم الأزواج إلى أهل، ما يتضمّن تحدّيات مختلفة وتنظيمًا جديدًا للأدوار. هنا، يتوجّب على الأزواج أن يُجنّبوا علاقتهم الزوجيّة الإزعاج الذي قد ينتج من التفاني الذي يتطلّبه الأبناء. كذلك، يجب الحرص على ألّا تؤدّي التزامات العمل ومتطلّبات الحياة اليوميّة إلى بداية بُعد تدريجيّ.

_ المرحلة الثالثة: التغيُّر: غالبًا ما تحصل بين سنوات الزواج العشر والعشرين. ويمكن أن تتزامن مع سنّ البلوغ لدى الأبناء، ومنتصف العمر لدى الزوجين. تتميّز هذه المرحلة بحالة تأمُّل وتجديد في حياة الكائن البشريّ؛ فمن المهمّ أن يكون الزواج في حالة صحيّة ويُواجَه بأفضل طريقة. هكذا، لا يتحوّل إلى تهديد للاستقرار الزوجيّ .كذلك، على الزوجَين أنْ يبذلا جهدًا لكي لا تؤثّر الصعوبات الناشئة عن تربية الأبناء في العلاقة الزوجيّة، بل ينبغي أن تتجسّد الأولويّة في وحدة السلطة والعمل المشترك. في هذه المرحلة، يتعيّن على الزوجين أن يكونا خلّاقين لكي لا يقعا في الرتابة ويُعيدا اكتشاف أحدهما الآخر بوصفهما زوجَين ويتواصلا من جديد فيما بينهما.

_ المرحلة الرابعة: الاستقرار: تصادف هذه المرحلة بين سنوات الزواج العشرين والخمس والثلاثين. وعن هذا كتب المؤلِّف فرنسيسكو كاستانييرا في مقالته "دورة حياة الزواج" ما يلي: "بعد توصُّل الزوجَين إلى حلّ المشاكل والأزمات في المراحل السابقة، تُعتبر هذه المرحلة وقت استقرار وفرصة لمزيد من التنمية والتحقُّق على مستوى الذات وكزوجين".

وتشهد هذه المرحلة "العيش الفارغ" بشكل عامّ وهي تعطي الزوجين شكل حياة جديد. الآن، يصبح أحدهما موجودًا من أجل الآخر. ونسبةً إلى أحدهما، قد يكون هذا الوضع مؤلمــًا لأنّه يتضمّن انفصال الأبناء وشعورًا بالوحدة. مع ذلك، يتوصّل الأهل إلى تحمُّل هذا الوضع والتغلُّب عليه مع مرور الوقت.

وأكثر ما يهمّ في هذه المرحلة هو الرسوخ والمعرفة التامّة للشريك: القدرة على التحاور، وتقبُّل الاختلافات بشكل أفضل، والضحك على الأخطاء، والانتقاد بشكل مُحبّ، والبدء معًا بنشاط مُعَيَّن. إنّها فرصة لإعادة التأكيد على الإبداع وإيجاد تحدّيات جديدة للحياة الزوجيّة.

_ المرحلة الخامسة: التقدُّم معًا في السنّ: تصادف هذه المرحلة بعد مرور خمس وثلاثين سنةً على الزواج. يختار بعضهم التقاعد، وهكذا يبرز أمر إيجابيّ جدًّا يتمثّل في توافُر مزيد من الوقت ليستمتع الزوجان أحدهما مع الآخر، إذ يقومان بأنشطة كانت مستحيلة في السابق، بسبب الانشغالات في العمل، ويبرز دافع كبير لهما يتجسّد في الأحفاد. فهؤلاء الصغار يمنحون النور والسعادة لزواجهما.

وفي هذه المرحلة، يحتاج الشريكان إلى كثيرٍ من الدعم والحنان المتبادلين. هذا وتقلّ الصراعات؛ لأنّ معظم الأزواج يكونون قد استقرّوا على مستوى السلطة والألفة.

وهكذا، يتبيّن للقارئ المراحل الخمس التي يمرّ بها الزواج، وفي ما يلي بَحْثٌ في المبادئ العامّة لحلّ المشاكل الزوجيّة.

 

الفِقرة الثانية: المبادئ العامّة لحلّ المشاكل الزوجيّة:

عندما يتزوّج رجل بامرأة فإنّهما "ليسا في ما بعد اثنين بل جسد واحد (متّى 6:19). وهذا يعني أنّ رباط الزواج يجب أن يدوم بين الرجل والمرأة في محبّة الله ومخافته، إذ ينبغي على الرجل أن لا ينظر إلى الزوجة على أنّها أدنى منه مرتبة أو أنّها عبدة للمتعة الجسديّة والخدمة المنزليّة، فهي نصفه الآخر الذي يكمّله، ومن واجبه أن يحافظ على هذا النصف محافظةً تامّةً مثلما يحافظ على نفسه، ويحبّ هذا النصف كما يحبّ نفسه تمامًا. كما ينبغي على المرأة أن تحافظ على زوجها مثلما تحافظ على نفسها، فتحبّه وتحترمه وتُحافظ على قدسيّة الزواج، وعليها أنْ تنظر إليه أنّه نصفها الآخر المكمّل لها وحصن لها يُدافع عنها ويصونها؛ لأنّه كما أنّ المسيح هو رأس الكنيسة فكذلك الرجل هو رأس المرأة، فعلى كلّ من الرجل والمرأة أن يُحبّ شريكه كنفسه، والمفروض أن يدوم هذا الرباط الزوجيّ المقدّس حتّى الموت؛ لأنّ ما جمعه الله لا يُفرّقه إنسان (متّى 6:19)، هذا هو مفهوم الزواج في الدين المسيحيّ.

يؤكِّد خبراء عَلم النفس والاجتماع أنّ الأسلوب الذي يتّبعه الزوجان في مواجهة الخلاف يقضي على العلاقة أو يوسّع الشرخ بين الزوج وزوجته. من هذا المنطلق نقدّم بعض المبادئ العامة التي لا بدّ من توافرها ليس لاستمرار الزواج فقط بل لإنجاحه أيضًا:

أ - تفهُّم القِيَم: في الغالب تنتج المشاكل في أغلبها من صراع القِيَم الخاصّ بكلّ من الزوجين، فكلّ إنسان له قِيَم إنسانيّة وثقافيّة مختلفة عن الآخر اكتسبها بحكم التربية والبيئة والتعليم والخبرة. وبطبيعة الحال، كلّما كانت الفجوة في هذه القِيَم أكبر كانت المشاكل أكثر، لذلك فإنَّ تفهُّم قِيَم الطرف الآخر والتكيُّف معها سُيقلّل من المشاكل الزوجيّة بشكلٍ ملحوظ.

ب - تعلُّم الاستماع: يحتاج كلا الزوجين إلى أن يستمع كلٌّ منهما إلى الآخر، وكُثُرٌ يغفلون هذه النقطة الهامّة، وفي النهاية يجد الزوجان أنّهما أمام مشاكل كثيرة كان بالإمكان تجنّبها لو أنّهما أتقنا فنّ الاستماع أحدهما إلى الآخر. وتاليًا، على الزوجين أن يسمح كلاهما للآخر بأن يعبِّر عن كلّ ما يريده وأن ينصت ويستمع له باهتمام من دون مقاطعة أو إزعاج؛ لأنّ ذلك سيُشكِّل فرصةً لاستكشاف أفكار شريك الحياة وتطلُّعاته.

ت - خُذْ وأعْطِ: لكي تستمرّ الحياة الزوجيّة وتبقى يجب أنْ تكون قائمةً على المشاركة والمساهمة، والمشاكل الزوجيّة هي جزء من الأشياء الّتي ينبغي أن نطبّق مبدأ المشاركة فيها، فلا يمكن أن نفرض حلًّا لمشكلة بدون رضى الطرف الآخر أو أن نستخدم أسلوب التهديد في حلّ المشاكل، بل هو أمر يحتاج لأن نُطبِّق مبدأ "خُذ وأَعْطِ"، فلا بُدَّ لأحد الطرفين من أن يتنازل عن بعض الأشياء في مقابل تجاوُز العقبات والمشاكل.

ث - حوار: كما يُقال فإنّ لكلّ مشكلة حلًّا، وطالما أنَّ الأمر كذلك فأفضلُ الطرائق لحلّ هذه المشكلة من دون أن تؤثّر سلبًا على العلاقة الزوجيّة هو الحوار، فالحوار بين الزوجين بإمكانه التخفيف من حدّة التوتُّر بين الزوجَين عند حدوث المشاكل، وهو الطريق الأنسب للخروج بحلّ يُرضي الطرفين.

ج - النضج الانفعاليّ و الانسجام الزوجيّ: هذا يُمكّن الزوج أو الزوجة من تحمُّل الصعوبات وتخطّي الأنا ليتوازن الأخذ والعطاء في العلاقة. كما أنّ التناغُم بين الزوجين يسمح بتخطّي الأزمات والاستفادة من الخلافات، وهذا يؤثّر إيجابًا عليهما وعلى أولادهما... .

ح - الإيمان بقدسيّة الزواج: الشعور بأنَّ الرباط الزوجيّ سرّ عظيم مقدَّس/ الشعور بأنّ العائلة كنيسة رأسها المسيح وأنّ السلطة الأبويَّة من الله... .

خ - الهمّ الإيمانيّ عند الزوجين: الإيمان بأنَّ الله يساعد الّذين يطلبون مساعدته، فالعلاقة الزوجيّة ليست علاقة حاكم ومحكوم، بل عطاء مستمرّ وأنّ التربية عملٌ مقدّسٌ ... .

هذا، وفي إحصاء أُجرِي في روما فلقد تمّ إجراء مقابلات مع 500 زوجٍ وزوجة مؤخّرًا حول العناصر الّتي ساعدتهم على المحافظة على زواجهم وأتت إيجاباتهم على الشكل الآتي: الثقة المتبادلة (52%)، الإيمان والروحانيّات (27%)، والتواصل الجيّد (18%). كما ذكر بعضهم القدرة على القيام بالتنازلات ومحبّة الأبناء والصبر والمسامحة وقضاء الوقت معًا.

وعند سؤال عدد من المنفصلين أو المطلّقين عن سبب فشل العلاقة تحدّث أغلبهم (58%) عن مشاكل في التواصل يليها غياب التنازلات أو الثقة (51%). كما ذكرت بعض المجموعات من بعض البلدان المشاكل الاقتصاديّة ومشاكل تربية الأولاد والعلاقة مع أسرة الشريك.

ويمكننا القول في المحصّلة إنّه ومن جملة العوامل هذه، هناك عوامل مفصليّة لضمان زواجٍ سعيد، ولذلك من الواجب أخذ هذه الأرقام بعين الاعتبار، إضافةً إلى المعلومات الّتي يُقدمها لنا خبراء العلاقات حول سلسلة العناصر الآتية:

أ - التنازلات والحلول الوسطى: تُشير الدراسات الإحصائيّة ما تكرّره العقيدة الكنسيّة ومفاده أنَّ الحبّ الزوجيّ يستند إلى الإيمان والقدرة على تقديم التنازلات. فمن الممكن تخطّي العديد من مشاكل التواصل والتعايش في حال تمّ احترام عهد الثقة وقرار محبّة الآخر الذّي يقطعه الشريكان يوم الزواج، وذلك في كلّ يوم وكلّ حالة. لذلك من المهمّ جدًّا معرفة معنى هذا العنصر الحيويّ في الحياة الزوجيّة وقيمته العمليّة.

ب - القيم المشتركة: من العناصر الّتي تسهم في التجانس والاستقرار بين الزوجين هي القيم المشتركة بينهما، فهي كالكنز الّذي يُغني القرارات اليوميّة سواء أكان ذلك على مستوى الحياة الزوجيّة أم إدارة المال أو تربية الأولاد أو إدارة العلاقة مع كِلا الأسرتَين.

ت - التواصُل: نتعلّم الكلام في السنوات الأولى من حياتنا إلّا أنّنا نتعلّم كيفيّة التواصُل طوال حياتنا، كما نتعلّم أنّ مقاربة الأشخاص للأمور تختلف من شخصٍ إلى آخر، إذ يتّم التعبير عنها بصورةٍ مختلفة. فالأشخاص إمّا أنْ يكونوا عفويّين وإمّا محافظين، ومنهم مَنْ يستخدم الكلام ومنهم مَنْ يستخدم الإشارات أو الأفعال للتعبير عن مشاعرهم. وتُعزى أغلبيّة الصعوبات الّتي تؤدّي إلى كره الأزواج بعضهم بعضًا أو القول "شريكي لا يفهمني" إلى الفوارق في التواصُل. فَمِنْ شأن اكتشاف أسلوب الشريك في التواصُل أو الطريقة الفضلى للتعبير له عن المشاعر أن تُساعد كثيرًا في بناء حياة زوجيّة سليمة.

ث - أدوات حلّ النزاع: من الطبيعيّ جدًّا الاختلاف في وجهات النظر والآراء، لكن لضمان عدم تحوُّل هذا الاختلاف إلى نزاع أو أزمة، من الضروريّ تعلُّم تقنيّات التواصُل وأدوات حلّ النزاع. ومِن شأن هذه الأدوات أن تساعد الجميع بخاصةٍ أنّ التواصُل فنّ ذو تقنيّات مختلفة، وكلّ إنسان عالمٌ بحدّ ذاته يستحقّ أنْ نكتشفه ونتقرّب منه انطلاقًا من خصوصيّته.

ج - الروحانيّة والإيمان: عند التحدُّث عن الزواج السعيد، علينا التفكير بشكلٍ خاصّ بالّذي يُقدِّمه لنا اللّه من خلال الزواج والعلاقات الحميمة، إذْ هو الحبّ ونبعه. ولذلك، فإنَّ تعلُّم الحبّ ليس سوى تعلُّم الاستماع إلى إرادة اللّه والعمل بها في حياتنا الخاصّة وحياتنا الزوجيّة. كما أنّ طريق البحث عن الحبّ يؤدّي بالشريكَين إلى بركاتٍ كبيرة بخاصّةٍ عندما يكون هذا الحبّ حقيقيًا وروحيًّا. ومن أجل ذلك، فعند المرور بلحظات صعبة خلال العلاقة أو الرغبة في المحافظة على لحظات السعادة الّتي يختبرها الزوجان، من الضروري تطوير الجانب الروحانيّ مع تعزيز الحبّ والثبات به.

 

القسم الثاني _ مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها وأنواعها

يأتي بزوغ فكرة الوساطة بشكلٍ عامّ في ظلّ اعتبار عدد من المتقاضين أنّ المحكمة طرف ثالث في النزاع، وعدم رضاهم على الأحكام القضائيّة، التي غالبًا ما لا تكون وفق انتظاراتهم. وترمي الوساطة إلى تخفيض الضغط على القضاء، من خلال تحديد جلسات مع أطراف النزاع، تنتهي بصياغة وثيقة بين الأطراف حول الحلول التي توصَّلوا إليها. هذا مفهوم الوساطة بشكل عام، فما هي الوساطة الزوجيّة؟ ولماذا الوساطة هي أمام المحاكم الكنسيّة؟ وهل ما تقوم به السلطات الدينيّة والمحاكم الكنسيّة يمثّل تطبيقًا صحيحًا لما نصّ عليه الكتاب المقدّس في هذا الشأن؟

أسئلة كثيرة تُطرح في هذا الشأن والأجوبة عنها تنطلق ممّا هو وارد في الكتاب المقدّس بحيث جاء في رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية ٦: ٢: "ساعدوا بعضكم بعضًا في حمل أثقالكم، وبهذا تُتمِّمونَ العملَ بشريعة المسيحِ". كما جاء في رسالة يعقوب ٥: ١٦: "فلْيَعتَرِفْ بَعضُكم لِبَعضٍ بِخَطاياه، ولْيُصَلِّ بَعضُكم لِبَعضٍ كَي تُشفَوا. صلاةُ البارِّ تَعمَلُ بِقوَّةٍ عَظيمة".

أمّا إنجيل (متّى ١٨: ١٥، ١٦) فقد ورد فيه: «وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ".

من الواضح أنَّ معظم المقاطع الّتي ورد ذكرها في نصّ الكتاب المقدّس تقبل التطبيق بشكل عامّ، وخاصّة فيما يتعلّق بشؤون الأسرة الخاصّة، ونستطيع تطبيقها على المشاكل الأسريّة والزوجيّة.

فإنجيل متّى يحدونا الأمل في أن تنجح وساطة واحد أو اثنين من المسيحيّين في حلّ المشكلة، ولكن إذا لم يحدث ذلك، فإنّ الإنجيل يقول بأنَّ علينا أنْ نرفع الأمر أمام الكنيسة، لعلّ هذا يُعيد الطرف المذنب إلى صوابه. وإنّنا نستخلص ممّا ذُكِر أنّ الوساطة بشكل عامّ كما الوساطة الزوجيّة بشكلٍ خاصّ واجبة التطبيق قبل رفع الدعوى أمام المحاكم الكنسيّة، علّها بذلك تُعيد الأمور الزوجيّة إلى نصابها الصحيح.

فما هي هذه الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة وقواعدها؟ وما هي أنواع الوساطة الزوجيّة؟

 

الفصل الأوّل _ مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها

كان القضاء منذ القِدَم ولا يزال الوسيلة الأساسيّة لحلّ النزاعات؛ ولكنْ، مع تطوّر الحياة والظروف، أخذت الدول تُنشئ إلى جانب القضاء وسائل أخرى تحسم النزاعات بها.

وبذلك ظهر التحكيم وتطوَّر مع تطوُّر الحياة، وظهرت الوساطة وتطوّرت أيضًا، وهذا الشكل من العدالة قديم جدًّا وهو أقدم من عدالة الدولة، إذ كانت مطبّقة في العهد القديم في فرنسا حيث كانت بمفهوم المصالحة.

وعودًا إلى التراث الحضاريّ الإنسانيّ، والأعراف الشعبيّة المتمثّلة في دور الشيوخ ورجال الدين وأعيان القبيلة أو الجماعة التي تنتمي إليها الأطراف المتنازعة، نذكر أنّ هذه الفئات من المجتمع كانت تقوم بدور الوساطة وحلّ النزاعات والصراعات والتوفيق بين الأطراف في المواقف والمصالح بشكل ودّيّ واختياريّ لحلّ مُتَفاوَض بشأنه.

انطلاقًا ممّا ذُكر نعرض في البند الأوّل مفهوم الوساطة الزوجيّة، وفي البند الثاني نُلقي الضوء على مميّزات وقواعد الوساطة الزوجيّة.

 

 

البند الأوّل _ مفهوم الوساطة الزوجيّة

لا يمكن الحديث عن مفهوم الوساطة الزوجيّة قبل التطرُّق إلى مفهوم الوساطة بشكل عامّ، وعليه نبحث في المفهومين وفقًا للآتي:

 

الفقرة الأولى: الوساطة بمفهومها العامّ:

تُعتبر الوساطة الأساس الّذي يقوم عليه نظام الوسائل البديلة، فهي المحرّك والسبيل لإيجاد حلّ توافقيّ بين المتنازعين، وعلى ما يبدو أصبحت الوساطة الوجه أو الصورة الأنسب للقضاء والعدالة الحديثة، إذ يكون القرار فيها من صُنع الأطراف، ويقتصر دور الوسيط في المساعدة على تحديد النزاع وإزالة العقبات.

يُستخدم مصطلح "الوسائل البديلة لِفضِّ المنازعات" لوصف مجموعة من آليّات فضّ المنازعات، مثل التحكيم والوساطة، وتُعتبر الوساطة والتحكيم من أشهر صور الوسائل البديلة لفضّ المنازعات وأكثرها شيوعًا، وتتميّز الوساطة باستخدام طرف ثالث "محايد"، وهو الوسيط سواء للتوسُّط في منازعة معيّنة بين الطرفين أو تحقيق الصلح وإعادة العلاقة بينهما.

ثم تُقدِّم أنظمة التسوية البديلة لفضّ المنازعات فرصةً لتجنُّب الإجراءات المطوَّلة والمكلِفة لرفع القضايا، نظرًا إلى تميُّز إجراءاتها بالسرعة وقلّة التكلفة، هذا إلى تضمُّنها احتمالات عودة الطرفين لاستئناف العلاقة بصورة ودّيّة، وتُشكّل الوسائل البديلة لِفَضّ المنازعات جزءًا هامًا من طرائق فضّ المنازعات في العديد من الدول المتقدِّمة، وتكتسب أهمّية متزايدة في الدول النامية.

إذًا، الوساطة هي طريقة سلميّة وحبّية لحلّ الخلافات، تُعطي الحق أطراف نزاع حاليّ أو مستقبليّ الحق ّبالاتفاق على تعيين وسيط - حياديّ، مستقلّ ومتخصِّص _ يُساعد في التوصّل إلى حلّ يُراعي القوانين الإلزاميّة والنظام العام يضعونه بأنفسهم ويكرّسونه بموجب عقد. إنّ الوساطة تقنيّة سرّيّة، سريعة، تحافظ على استمراريّة العلاقات مستقبلًا، كما أنّ اللجوء إليها هو فعل إراديّ بحت.

إنّ الوساطة تقتضي تدخُّل طرف ثالث، يتوسّط بين قطبَي النزاع، يضع نفسه وسط خصمَين اثنَين – سواء أكانا شخصين أم جماعتين أم شعبين – يتواجهان ويتضادّان. فالوساطة تهدف إلى نقل القطبَين من حالة "الخصومة" إلى حالة "المحادثة"، أي تهدف إلى الوصول بهما نحو التفات كلّ منهما صوب الآخر للتحادُّث والتفاهُم وإيجاد تسوية، إنْ أمكن، تشقّ الطريق إلى الوفاق، أو المصالحة إن لم يكن إلى الوفاق.

يتضّح ممّا سبق أنّ الهدف الأساس من القيام بعمليّة الوساطة هو إتاحة الفرصة للأطراف المتنازعة من أجل خلق جَوٍّ من التفاهُم، والإسهام في إشاعة ثقافة الحوار بينهما، ودفعها  للمشاركة بشكل إيجابيّ في  ابتكار حلول توفيقيّة، ومحاولة إذابة الخلاف وتقريب وجهات النظر، وهي بذلك توفّر إطارًا قانونيًّا على القياس لكلّ حالٍ يكون مقبولًا من الطرفين المتنازعين ومِن صُنعهما، يضمن لهما الحصول على عدالة في ظروف يمكن الاطمئنان إليها، تكون فيها الأطراف هي المشرّعة لنفسها أنْ تحسمَ النزاع بشكل أفضل.

هذه هي الوساطة بمفهومها العامّ، فماذا عن الوساطة الزوجيّة؟

 

الفِقرة الثانية: مفهوم الوساطة الزوجيّة:

تهدف الوساطة الزوجيّة إلى إعادة بناء الروابط العائليّة بالتركيز على استقلاليّة ومسؤوليّة الأشخاص الّذين يُعانون مشاكل القطيعة والانفصال، وإتاحة الفرصة للأزواج لتقويم الأمور والبحث عن مصلحة الأولاد، وإيجاد طريق أفضل للمستقبل بالحوار والاحترام المتبادل.

وممّا لا شكّ فيه أنّ حلّ المنازعات من طريق الوساطة الزوجيّة يُعتبر من الوسائل والمظاهر الحضاريّة لحلّ النزاعات؛ لأنّه يعتمد طريق الحوار الهادف والبنّاء والّذي تُوفّره الوساطة للأطراف. وهذا يدلّ على حضاريّة فكرة الوساطة وحضاريّة الأطراف بقبول الحوار وجَعْله مفيدًا وبنّاءً. كما أنّ توفير لقاء للأطراف المتنازعة، بهدف الاجتماع والحوار وتقريب وجهات النظر، بمساعدة شخص محايد، لَهْوَ محاولة مهمّة توصِل إلى حلّ ودّيّ يقبله أطراف النزاع.

اعتبرت الوساطة الأُسريّة آليّة من شأنها حلّ النزاعات بين الأزواج والحدّ من التفكُّك الأسريّ وكذا التقليص من حدّة النزاعات وبناء علاقات متينة بين أطراف النزاع داخل الأسرة، وتأهيل هؤلاء لتقوية التوازنات النفسيّة والتوافقات السلوكيّة والاجتماعيّة بين الأزواج، وأيضًا الدور الفعّال لنظام الصلح في تسوية النزاعات وخاصّة الأسريّة ذلك أنّه قبل أن يكون إجراءً قانونيًا.

كما أنّ الوساطة الأُسريّة تكتسي أهميّة كبيرة عبر خلق جسور للتواصل بين الأزواج، كونها تسمح بالتخفيف من العبء الملقى على القضاء الكنسيّ، كما أنّ الدور الأساسيّ للوساطة يتجلّى في تحويل سلوكيّات النزاع إلى إدراكات واعية والعمل على بلورة منهجيّات تسمح بالتوسّط، وتساعد على إيجاد تركيبات جديدة، انطلاقًا من جرد العناصر القائمة والتعرُّف إليها بشكل يُؤهّلها كي تُنتج علاقات جديدة.

ثُمّ إنَّ الأهمّـــيّة الكبيرة التي تكتسبها الوساطة في حلِّ النزاعات في مختلف المجالات، وخاصّة في ما يتعلَّق بالنزاعات الأسريّة من خلال التقريب بين طرفي النزاع، بغية الحفاظ على تماسُك الأسر ومن أجل الحدّ من التفكّك الأسريّ.

الآن، وبعد أنْ تحدّثنا عن الوساطة بمفهومها العامّ، والوساطة الزوجيّة بشكلٍ خاصّ، نتطرّق في البند الثاني إلى مميّزات وقواعد الوساطة الزوجيّة.  

 

البند الثاني _ فوائد ومميّزات وقواعد الوساطة الزوجيّة

وُصِفَتْ مِهنةُ الوساطة بالمجال المعقّد، لأنّها توجب على الوسيط التمتّع بمؤهِّلات خاصّة، تسمح له بإدارة جلسة بين طرفين في حالة نزاع، أي أنْ يكون ملمًّا بالجوانب القانونيّة والنفسيّة والاجتماعية، لتفادي التوصُّل إلى حلول تتنافى ومقتضيات قانونيّة.

للوساطة الزوجيّة فوائد ومميّزات (الفقرة الأولى) وقواعد يجب احترامها عند القيام بها (الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: فوائد ومميّزات الوساطة الزوجيّة:

تتميّز الوساطة الزوجيّة بمجموعة من المزايا والفوائد، وتُعتبر أحد  الحلول  البديلة  لِفضّ المنازعات، وإنّ لها عددًا من الفوائد  والمبرّرات  التي جعلتها  حلًّا بديلًا من أكثر الحلول فعاليّة في فضِّ المنازعات، وتتمثّل هذه الفوائد والمبرّرات  بما يلي :

أ - الخصوصيّة: تكفل الخصوصيّة محافظة طرفي النزاع على خصوصيّة النزاع القائم بينهما، بعيدًا عن إجراءات العلانيّة التي تتّسم بها إجراءات المحاكمة القضائيّة، إذ إنّه في كثير من الأحيان يفضِّل الزوجان  حلِّ النزاع العالق بينهما بعيدًا عن إجراءات المحاكمة العلنيّة، وهنا تكمن فائدة الوساطة في المحافظة على تلك الخصوصيّة، ممّا يُشجّع الأطراف المتنازعة على اللجوء إلى ذلك النظام، مع العلم أنّ المحاكم الكنسيّة تُطبِّق إلى حدٍّ كبير مبدأ السرّيّة واحترام خصوصيّة أطراف النزاع؛ ولكنَّ الوساطة الزوجيّة تُعطي الزوجَين كفالةً أكثرَ في ما يتعلّق باحترام الخصوصيّة.

ب - محدوديّة تكاليف الوساطة، مقارنةً بتكاليف المحاكمة: تتّسم الوساطة بأنّها ذات كلفة مادّيّة أقلّ من كلفة التقاضي، إذْ إنّ اللجوء إلى المحاكم من شأنه أن يُكبِّد الأطراف مصاريف ورسوم ونفقات يُمكن تجنّبُها من خلال اللجوء إلى نظام الوساطة، ذلك أنّ إجراءات المحاكمة تتطلّب وقتًا أطول من إجراءات  الوساطة. فالنزاع، ومن خلال الوساطة، يُمكن تسويته في الغالب بجلسة أو جلستين، في حين أنّ إجراءات المحاكمة تتطلّب وقتًا زمنيًّا أكثر من ذلك وما يستتبعه من رسوم ومصاريف ونفقات وجهد يمكن تفاديه باللجوء إلى نظام الوساطة، فالوساطة تُوفِّر الوقت والجهد والرسوم والمصاريف والنفقات .

وإنّنا نعيد ما أورده المطران علوان في مؤتمره الصحفي تاريخ 29/1/2015: "سنة 2014،  أصدرنا 312 حكمًا ونحن سبعة قضاة ... في المحكمة الابتدائيّة تنتهي الدعوى خلال سنة وبالاستئناف خلال 6 أشهر، والدعاوى الأخرى الّتي لا تشمل خصومة ولا يوجد أولاد تأخذ 3 إلى أربعة أشهر وتنتهي، لكنَّ الصعوبة تنشأ إذا كان هناك أولاد وهذا يشمل المشاهدة، والنفقة، والحراسة فتأخذ مدّة أطول، وهناك دعاوى يكون فيها أحد الطرفين لا يريد إنهاء الدعوى لكي لا يتزوّج الطرف الآخر، فالمحكمة غير مسؤولة عن إبطاء الدعوى. والعمل يتراكم علينا إذا ترك أحد القضاة منصبه".

ت - تحقيق مكاسب مشتركة لطرفي النزاع: ذلك أنّ التسوية النهائيّة في الوساطة تكون قائمة على حلول غير اعتياديَّة، فهي قائمة على أساس الحقوق القانونيّة والوقائع والمصالح المشتركة من دون الاقتصار على الحقوق القانونيّة التي تعتمد عليها الأحكام القضائيّة. وهذه الحلول مُرضيَة لِطَرَفي النزاع، وتمّ التوصُّل إليها بإرادتهما الحرّة، وتكون قائمة على تحقيق مكاسبهما ومصالحهما المشتركة .

ث - المحافظة على العلاقات الودّيّة والمصالح المشتركة بين طَرَفَي النزاع: ينبغي القول إنّ من شأن تسوية النزاع بين الخصوم من طريق الوساطة يُفضي إلى حلٍّ مُرضٍ لطرفي النزاع، يُحقِّق مصالحهما المشتركة  ويُفسح بالمجال لاستمرار العلاقة الودّية بينهما، في حين أنّ نتيجة الخصومة القضائيّة تُفضي في الغالب إلى قطع مثل تلك العلاقات .

التوصُّل إلى اتّفاق متين بين طرفَي النزاع: وتتمثّل هذه الفائدة في أنّ الاتفاق الّذي يتمّ التوصُّل إليه  من خلال عمليّة الوساطة يكون من صُنع الخصوم وبمساعدة الوسيط، ومِن ثمّ إنّ متانة هذا الاتّفاق  وطبيعة التوصُّل إليه تُؤدّي إلى سرعة تنفيذه بعكس الأحكام القضائيّة التي قد يتطلّب تنفيذها وقتًا زمنيًّا وإجراءات لدى الجهات المختصّة تتّسم بالجبريّة أحيانًا .

 ثمّة مميّزات وخصائص تتمتّع بها الوساطة جعلتها متقدّمة على الوسائل التقليديّة لحلّ الخلافات، وهذه المميّزات باتت مقبولة وفعّالة في حسم النزاعات، بِغَضِّ النظر إن كان ذلك من حيث تخفيف العبء عن القضاء، أو مرونة الوساطة وسرعتها للفصل في النزاعات، أو سرّيّتها أو ضمانها لاستمرار العلاقات الودّيّة بين أطراف النزاع.

لعلّ أهمّ الأسباب الّتي استوجبت اللجوء إلى الطرائق البديلة لِحَلّ النزاعات هو وجود الأساليب التقليديّة والشكليّات الرسميّة المعقّدة، فحلّ النزاع من طريق القضاء يحتوي ويشمل عدّة أمور يجب اتِّباعها تحت طائلة البطلان مِمّا يُشكّل قيودًا على عاتق المتقاضِين، ففي الوساطة لا نلاحظ أيَّ إجراء يترتّب عليه البطلان، وبعكس ذلك تهدف الوساطة إلى اتِّباع أيّ إجراء يمكن أنْ يُؤدّي إلى حَلٍّ مُرضٍ لأطراف النزاع، فالوسيط غير ملزم باتّباع إجراءات معيّنة ما دام الهدف هو إيصال الأطراف للحلّ الذي يرغبون فيه.

وهكذا، أظهرنا للقارئ أهمّ فوائد ومميّزات الوساطة الزوجيّة، وها نحن نتطرّق إلى قواعد الوساطة الزوجيّة ودور الوسيط وفقًا للآتي:

 

الفِقرة الثانية: قواعد الوساطة الزوجيّة ودور الوسيط:

تجدر الإشارة إلى أنَّ مصلحة الزوجين أو المطلَّقَين والواقعين في خلاف تكمُن في التسلُّح بثقافة الاستعانة بوسيط عائليّ، يتميّز بحكمته ومقدرته على إرشادهما ومساعدتهما على حلِّ بعض المشاكل المتأزّمة والّتي يعجز الطرفان عن حلّها.

قبل الشروع في قواعد وإجراءات الوساطة الزوجيّة، لا بدَّ من أن يكون الشخص الثالث الذي سيُجري عمليّة الوساطة بين الزوجين مقبولًا من أطراف النزاع،  على أنْ يتميّز هذا الشخص بالأمانة والصدق ويكون مصدر ثقة لكلًّا منهما. وأنْ يلتزم الحياد والحكمة والاستقلاليّة، من دون أن يرجّح كفّة طرف على آخر، أو أنْ يصدر أحكامًا على موضوع النزاع.

تقتضي مهمّة الوسيط أن يقوم بتحضير لقاء الفرقاء في مكانٍ محايد وإدارة الجلسات وتحفيز الحوار وفقًا لتقنيّات ومهارات يملكها، وتمكّن الفرقاء من التوصّل إلى فَهْمِ حاجاتهم ومصالحهم، وتاليًا فهم وتقبّل حاجات ومصالح الفريق الآخر لإيجاد قاسم مشترك يؤسّس ركيزة التوصُّل إلى حلّ مناسب ويكون وليد إرادتهم، كما لا تدخل في مهمّة الوسيط الفصل في النزاع.

ومن مزايا الوساطة الزوجيّة، الاستماع إلى الزوج أو الزوجة، ضمن احترام خصوصيّة النزاع القائم بين الأطراف المتنازعة، وتسوية النزاع بحلول مُرضِية لكلِّ الأطراف. وتجري العمليّة في ظروف تتّسم بالمرونة لعدم وجود إجراءات وقواعد محدّدة سلفًا، الأمر الّذي يُحافظ على العلاقات الودّيّة بين الخصوم، بحيث لا مكان لأيّ خطورة، لأنّها تمنح الخصوم حرّيّة الرجوع عن أيّ عرض في أثناء جلسات الوساطة ما لم يثبت خطّيًّا.

هذا، وعلى الوسيط أنْ يكون منتميًا بشكل عامٍّ إلى ذوي الاختصاص في علم النفس الاجتماعيّ والنفسيّ، كما ينبغي أنْ يكون مُطّلعًا على أهمّ المبادئ والقواعد القانونيّة ليتمكّن من معالجة المشاكل الزوجيّة بالطرائق الجيّدة.

وبَعْدُ، يتحتّم على القائم بأمور الوساطة العائليّة تجنُّب الانفعال والتحيُّز، أو أنْ يحلّ محلّ الأطراف المتنازعة في تحديد عناصر الخلاف وإصدار الأحكام والتعابير الملتبسة، فهو لا يبحث عن الحلّ المعتدل (نقطة الوسط)، إنّه يبحث عن حاجات الزوجين ويُساعدهم على إيجاد حلول بديلة ومبتكرة تُرضي الفرقاء من دون الفصل في النزاع بطريقة تولّد الإحباط لدى أحد الزوجين. إنّ الوسيط يسعى لفصل الزوجين عن المشاكل وتحفيزهم للتفاوض حول مصالحهم، وتاليًا إبعادهم عن مواقفهم الجامدة من أجل البحث والخوض لاكتشاف بدائل مبتكرة. وهو يدخل إلى وعيهم الطريقة الفضلى للمناقشة:

( BATNA = Best Alternative To a Negotiated Agreement)

وبذلك يكون قد أخرجهم من أسوء طريقة للمنافسة:

(WATNA = Worst Alternative To a Negotiated Agreement)

ومن أجل حلِّ النزاعات، يحتاج الوسيط إلى استراتيجيّة لتحريك العمليّة بغية الوصول الى نهاية ناجحة. إنَّ مجرّد جمع الطرفين معًا على أمل التوصُّل إلى تسوية هو أمر سلبي للغاية، ولا يُشكِّل استراتيجيّة فعّالة في معظم الحالات. فالوسيط يحتاج لأنْ تكون لديه رؤيا شخصيّة حول كيفيّة حلّ المسائل، وما ستكون عليه النتيجة الناجحة، وما المسار العامّ لبلوغ هذه الغاية.

غير أنّه لا يجوز أن تكون الاستراتيجيّة جامدة. فوفقًا لعبارة السفير هولبروك الشهيرة: "الدبلوماسيّة مثل موسيقى الجاز. إنّها اختلاف في الموضوع". وهذا صحيح بكلّ تأكيد في النزاعات. ففي حين يتوجب على الوسيط التركيز بقوّة على الهدف النهائيّ، وتجنُّب كلّ ما يشتّت الانتباه، عليه أن يكون مَرِنًا بما يكفي لتعديل الاستراتيجيّة كيْ يتمكّن من تجاوز العوائق، وانتهاز الفرص التي توفّرها له العمليّة. وبإمكان الوسيط أيضًا السعي للتأثير على وتيرة وكثافة المحادثات للمساعدة في الحفاظ على زخم إيجابيّ باتّجاه الحلّ.

ومن شروط عمل الوسيط أن يكون دبلوماسيًّا ليحفّز الاحترام المتبادل بين أطراف النزاع، وأن يكون مُنصتًا جيّدًا ويمتلك قدرات في التواصُل السليم والواضح، وأنْ يكون مُؤهّلًا لكتمان السرّ المهنيّ، وأن يكون مُؤَثّرًا، وله قدرة على تقريب وجهات النظر. أضف إلى ما سبق أنَّ الوسيط العائليّ يعمل من خلال تنظيم لقاءات سرّيّة، لإعادة الاتصَّال بين الفرقاء، وحلّ مشاكلهم المتعدّدة في الإطار العائليّ.

ويتطلّب هذا العمل مهارات من قبيل تدبير النزاع، وتقنيّات التفاوُض والتواصل، والقدرة على الإقناع والدراية بالأبعاد النفسيّة للسلوك البشريّ. وتبعًا لذلك، فإنَّ الوساطة تحتاج إلى تملُّك مواصفات، وقدرات ومهارات مُعيّنة من قبل الوسطاء، لكي ينجح الوسيط في المساعدة على إيجاد حلول للنزاعات الزوجيّة بشكل ودّيّ وفي أقرب الآجال.

وتاليًا، إنّ الوسيط شخص لا يتحدّث عن الآخرين ولا يقوم بتقديم اقتراحات أو حلول، وليس قاضيًا يقرِّر مَنِ المصيب ومَنِ المخطئ. وعادةً ما يكون الوسيط شخصًا ذا مقدرة على الحوار والإقناع، وله خبرة كافية في موضوع النزاع، ويعمل على جمع المعلومات اللازمة عن موضوع النزاع والتفاوض مع الأطراف في هذا الشأن، بهدف تقريب وجهات نظرهم ومساعدتهم على تفهُّم مواقف بعضهم بعضًا فيما يتعلّق بموضوع النزاع، ودفع الحواجز النفسيّة والاعتبارات البيروقراطيّة الّتي كثيرًا ما تكون السبب المباشر في نشوء النزاع. كما يجب أن يضع الوسيط في اعتباره الخلفيّة الثقافيّة للأطراف ومصالحهم بما يتيح له البصيرة اللازمة لِفَهْمِ وطَرْحِ الأسلوب الأمثل حتّى يُسوّي ويقترح الحلّ الناجح له.

وتختلف صور الوساطة بحسب نوع النزاع ومكانه، وتتراوح المشاركة الإيجابيّة في حلّ النزاع والتفاوض أو الاقتصار على إعطاء التوصيات وجمع المعلومات وإعداد تقرير بها للأطراف يُساعدهم على التوصل إلى حلّ الخلاف فيما بينهم. وعليه، نُقدِّم للقارئ أهمّ مهارات الوسيط، وهي:

1 _ خلق إطار تعاونيّ وبناء التفاوض، بغية إيجاد حلّ عادل يُبنى على فَهْمِ حاجات ومصالح الزوجين المتخاصمين.

2 _ بدء الوساطة عمومًا بمحادثات تمهيديّة تكون وظيفتها تهيئة الطرَفين لقبول الدخول في ديناميّة الوساطة. وعندما يفهمان مبادئ الوساطة وقواعدَها ويَقْبلانها، إذ ذاك يمكن للوسيط، أو للوسطاء عمومًا، أنْ يدعوهما إلى اللقاء، ويمكن لنجاح الوساطة أن يتجسّد في اتِّفاق مكتوب وموقَّع من الطرفين.

3 _ فنّ إعادة الصياغة المحايدة، والمقصود بذلك الفنّ كأحد أساليب الاتّصال بأنّه ذلك الأسلوب الّذي يتبعه الوسيط في أثناء إجراءات الوساطة بهدف إعادة صياغة العبارات الّتي يتلفّظ بها أطراف النزاع من أجل التعبير عن وجهة نظرهم بموضوع النزاع، ويتمّ الأمر من طريق استخدام ألفاظ وتعابير محايدة تهدف إلى كسب ثقة الأطراف، وبقدرة الوسيط على حلّ النزاع وإدارة عمليّة التفاوض وبالإجمال تسهيل عمليّة الوساطة، ووصولًا إلى حلّ النزاع بصورة وديّة.

4 _ توسيع إدراك رؤية المستقبل والعلاقات الإيجابيّة المطلوبة، وذلك من خلال التركيز على المصالح المشتركة والعلاقات المستقبليّة، بعيدًا عن اللوم والشكوى.

5 _ اقتراح خيارات لإثارة أفكار الطَرفين، ويُشترط أنْ تكون الأفكار والخيارات ذات مزايا متساوية للطرفين، وليست لطرف من دون الطرف الآخر.

6 _ استثمار فترة الهدوء والراحة، وذلك بهدف إعطاء كلّ طرف مجالًا لتقويم المقترحات والبدائل والعواقب الناجمة عن عدم الوصول إلى اتّفاق.

7 _ يريد الوسيط أن يجتهد في أن يكون "ثالثًا مسالما". فهو، بتوسُّطه، يكسر العلاقة "الثنائيّة" – وهي علاقة بين خصمين متجابهين– ليُقيم علاقة "ثلاثيّة" يستطيعان من خلالها التواصّل من طريق وسيط. ففي العلاقة الثنائيّة الّتي يُديمها الخصمان، يتصادم خطابان، وحجّتان، ومنطقان من دون أن يتيح أيُّ تواصُل إمكانيّةَ تعارُف وتفاهُم متبادلَين. فالمسألة هي في الانتقال من منطق منافسة ثنائيّ إلى ديناميّة تعاوُن ثلاثيّ. فليست للوسيط أيّةُ سلطة إكراه من شأنها أنْ تتيح له فَرْضَ حلٍّ على قطبَي النزاع. إنَّ المسلَّمة الكبرى الّتي تقوم عليها الوساطة هي أنَّ حلَّ النزاع ينبغي أن يكون، بصورة رئيسة، من صنع قطبَي النزاع كليهما، فالوسيط "مُيسِّر": إنّه يُيسِّر التواصل بين الخصمَين لكي يتمكّنا من التعبير عن نفسَيهما، والاستماع واحدهما إلى الآخر، والتفاهُم والتوصُّل إلى اتِّفاق. كذلك، تهدف الوساطة أوّلًا إلى فصل الخصمَين المتقاتلَين، ثُمَّ إلى الجمع بينهما لكي يتحادثا، كما تهدف إلى إتاحة الفرصة لهما للانتقال من حالة "جسم لجسم" إلى حالة "وجه لوجه". فـ"الثالث" الوسيط يسعى إلى إيجاد "فضاء وسيط" من شأنه أنْ يضع مسافة بين الخصمين بحيث يتمكّن كلٌّ منهما من اتّخاذ مسافة حيال نفسه وحيال الآخر وحيال النزاع القائم بينهما والّذي يجرحهما ويُضنيهما.

8 _  إنّ الوسيط لا يدير استجوابًا مشكّكًا، بل يقود تساؤلًا محترَمًا. وليس مقصده أن يتفهّم مُحاوِرَه فحسب، بل أنْ يُتيح له الفرصةَ أيضًا لكي يفهم نفسَه فهمًا أفضل، وأن يساعده على التفكُّر في نفسه وفي موقفه من النزاع. ولا يخفى علينا أنَّ الوسيط يُمارس على نحوٍ ما، فَنَّ "التوليد"، أي أنّه يُساعد مُحاوِريه على "استيلاد" حقيقتهم الخاصّة. ثُمَّ إنّ نوعيّة إصغاء الوسيط تتبدّى ها هنا حاسمةً في إنجاح مشروعه. فمَنْ يشعر بنفسه مسموعًا يشعر بنفسه مفهومًا. ويمكن له إذ ذاك أن يبوح بما في قلبه، لا أن يرويَ الوقائع فقط (أو روايته هو للوقائع على الأقلّ)، لا بل أكثر من ذلك – وهو الأهمّ – أنْ يُعبِّر عن "خبرته المعاشة". ولِفَكِّ عقدة النزاع، لا يكفي إثبات الحقيقة الموضوعيّة للوقائع، بل ينبغي الإحاطةُ بالحقيقة الذاتيّة للأشخاص، بانفعالاتهم ورغباتهم وإحباطاتهم وضغائنهم وآلامهم. عندئذٍ، يمكن لكلِّ امرئ التعرُّف إلى المشاعر الّتي تُحرّكه. والأصل أنّ لإصغاء الوسيط، في حدِّ ذاته، تأثيرًا علاجيًّا يأخذ في شفاء مُحاوره من مخاوفه وثورات غضبه وأعماله العنفيّة الكامنة. ويمكن له إذ ذاك نزع فتيل العداوة الّتي يُغذّيها في حقِّ خصمه.

بعد أنْ تكلّمنا على قواعد الوساطة الزوجيّة ودور الوسيط المحوريّ في هذه الوساطة، بقي أنْ نسلّط الضوء على أنواع الوساطة الزوجيّة في الفصل الآتي.

 

 

الفصل الثاني _ أنواع الوساطة الزوجيّة

 

تنقسم الوساطة بمفهومها العامّ إلى ثلاثة أنواع نوردها على النَّحو الآتي:

1_ الوساطة القضائيّة: وفي هذا النوع من الوساطة يتمّ إحالة النزاع إلى القاضي المكلَّف بالقيام بمهامّ الوساطة بصفته الوظيفيّة.

2_ الوساطة الاتفاقيّة: وفي هذا النوع من الوساطة يتّفق طرفا النزاع على إحالة الخلاف إلى وسيط يقومان بتسميته فيما بينهم.

3_ الوساطة الخصوصيّة: وفي هذا النوع من الوساطة يتمّ إحالة النزاع إلى وسيط خصوصيّ من ضمن جدول الوسطاء الخصوصيّين يتمّ اختيارهم من بين القضاة المتقاعدين والمحامين والمهنيّين المشهود لهم بالحياد والنزاهة ضمن شروط ومعايير يحدِّدُها القانون.

ونظرًا إلى إمكانيّة استحداث نوعَين من الوساطة في حلّ النزاعات الزوجيّة بصورة سهلة وعاجلة جدًّا، الوساطة الاتفاقيّة والوساطة القضائيّة، فإنّنا سنسلّط الضوء على هَذين النَوعين ضمن البندَين الآتيَين:

 

 

البند الأوّل _ الوساطة الزوجيّة خارج إطار المحاكم الكنسيّة

عند نشوب النزاعات الزوجيّة، وقبل اللجوء إلى المحاكم الكنسيّة، فإنَّ الوساطة الاتفاقيّة واجبة على ما أوردنا في مقدّمة القسم الثاني من بحثنا الراهن. وعليه، إنّنا نضيف:

 

الفقرة الأولى: الوساطة الاتِّفاقيّة:

تُعتبر إجراءات الطلاق أمام المحاكم المسيحيّة من أصعب الإجراءات في لبنان، ولا يجري بَتّ الدعاوى فيها سنويًّا. فقد تستغرق مدَّة الدعوى الواحدة ما يُقارب الثلاث سنوات، وأحيانًا أكثر من ذلك، في حال كانت أسباب الخصومة قويَّة.

استنادًا إلى ما أثبتته الدراسات من أنَّ الوساطة بين أطراف النزاع الأُسريّ تؤتي ثمارها قبل تدخُّل المحكمة في معظم الحالات، ونظرًا لازدحام المحاكم بملفَّات كثيرة بشأن النزاعات الأسريّة، وتشعُّب مشاكلها، ومن ثَمَّ التعب والإرهاق وضيق الوقت الّذي يُعانيه القضاء الروحيّ المختصّ، كلّ هذا يُوجِبُ خَلْقَ آليّة للبَتّ في مختلف المشاكل والنزاعات العائليّة، من خلال تكوين وسطاء يعملون في مركز الاستماع والإرشاد القانونيّ والدعم النفسيّ للزوجين، على أنْ يجري تعميم التجربة على مختلف المراكز المماثلة الخاصّة بالجمعيّات المدنيّة العاملة في المجال الاجتماعيّ، مع النهوض بالوساطة وثقافتها وتبيان أهميّتها.

ومن أهداف الوساطة الاتِّفاقيّة، في إطار خدمات مراكز الاستماع والتوجيه النفسيّ والقانونيّ التقليل من عدد الدعاوى، الّتي تُحال إلى القضاء، وربح الوقت وتوفير الجهد والحيلولة دون إهدار الأموال في الدعاوى القضائيّة، وإيجاد تواصُل بين الناس، وتفادي النزاعات والمحافظة على العلاقات والروابط الاجتماعيّة وحلّ الإشكالات بالتراضي.

في هذا النوع من الوساطة يتمّ اختيار الوسيط من قبل الأطراف أنفسهم، حيث يجمعون على تسمية وسيط معيّن يجدون لديه القدرة الكافية والكفاءة لحلّ النزاع.

يؤكّد الواقع أن الملفّات القضائيّة، التي يترافع فيها الزوجان، لا تتوقّف على المزايدة، بينما، توجد حالات كان بإمكان الطرفين فيها إنهاء الخلاف أو سوء التفاهُم بينهما بأقلّ الخسائر عليهما وعلى أُسَرهما، لو توافرت لهما إمكانيّة الاستفادة من وساطة عائليّة، محايدة وموضوعيّة تُنير لهما الطريق، وتُهديهم إلى مخرج يضيء عليهما الحياة، ليعيشا في سلام متبادل.

إنّ الأمر الذي يتمّ معه الاعتراف بالوساطة العائليّة كمهنة، ووضع قانون تشريعيّ لها في لبنان، يضع قواعد مضبوطة، تعترف بمهنة الوساطة، وتُحدِّد شروط العمل فيها، وبموجبها تُحدّد مناهج لتكوين الوسطاء والوسيطات، وتضبط أهدافها وأخلاقيّات ممارستها، لتصبح عملية الوساطة بين أطراف متنازعة مسعى أمثل يعمل على ترميم العلاقات وإحياء الحوار ما بين الأطراف المتنازعة، كوسيلة بديلة في حلِّ النزاعات عوضًا من التقاضي أمام المحاكم.

وتكون مهمّة القانون جعل الوساطة العائليّة صيرورة لإعادة موازين القوى داخل العلاقة الزوجيّة، مع احترام أخلاقيّات المهنة، لتدارُس كيفيّة جَعْل الوساطة العائليّة أداةً لمساعدة طرَفَي النزاع على حلّ مشاكلهما ونزاعاتهما بكل مسؤوليّة واستقلاليّة، والتكفُّل بمسار علاقاتهما.

وكذلك تكون ضرورة إيلاء الاهتمام للوساطة العائليّة، لما تتضمّنه من أهميّة في مجال التخفيف من وطأة التوتُّر في العلاقات الزوجيّة والأسريّة، وفي إيجاد حلول للنزاعات القائمة بين الأزواج، باعتبارها بديلًا من الإجراءات القضائيّة المعقّدة والمكلّفة مادّيًا ومعنويًّا، ولدورها الذي أصبحت تضطلع به في مساعدة الأزواج على تحقيق ذاتهم، وتأهيلهم لتأدية أدوارهم الكاملة في النهوض بأوضاعهم، خدمة لقضيّتهم بشكلٍ خاصّ والمجتمع بشكل عامّ.

وفي هذا الصدد، ينبغي تأسيس الجمعيّات التي تكون مَهَمّتها فضّ النزاعات بين الزوجين، وفي أحيان أخرى تكون لتقريب وجهات النظر بينهم بهدف اتّخاذ الحلّ، الّذي يُناسب كلًّا منهما وأسرتهما كذلك، سواء أكان عبر الاستمرار تحت سقف واحد في إطار العلاقة الزوجيّة، أم التفاهم على مباشرة إجراءات الطلاق، من دون الدخول في حروب باردة والوقوف أمام المحاكم... .

انطلاقًا ممّا ورد، ولأنّ المجتمع عليه أن يُؤسِّسّ ويُمَأسَسّ ويخلق ويبدع مختلف الآليّات الممكنة من أجل المحافظة على التماسُك الاجتماعيّ، ومن خلال التماسك الأسريّ وفق مقاربة بأبعاد مختلفة:

  - على المستوى القريب تكون ذات بُعْدٍ علاجيّ إصلاحيّ؛

  - على المستوى البعيد تكون ذات بُعْدٍ وقائيّ.

لقد غدت مؤسّسة الوساطة الأسريّة ضرورةً اجتماعيّة مُلِحّة بعد أن أصبح الجميع مؤمنًا بكون الثروة الحقيقيّة لأيّ مجتمع ما، هي الثروة البشريّة، ويجب تنميتها وتأهيلها بالتعليم والتدريب وصقل القدرات وتعزيز المهارات ....

واليوم أكثر من أيِّ وقت مضى أصبح التماسُك الاجتماعيّ شرطًا أساسيًّا يُحقّقُ الرخاء لجميع أبناء المجتمع الواحد، فالأسرة هي الموطن الأساس لبناء الإنسان وتنشئته تنشئةً سليمة في القرية أو المدينة، وعلينا جميعًا أن نسعى للمحافظة على تماسُكها واستقرارها؛ لأنَّ بقاء المجتمع رهنٌ ببقائها.

وتجدر الإشارة إلى أنّه تمّ اقتراح مشروع قانون جديد للأحوال الشخصيّة من قبل الدكتورَين  أوغاريت يونان ووليد صليبي بتاريخ 18/3/2011، وقد نصّ في المادة 38 منه على تشكيل جهاز مختصّ داخل المِلاك اللبنانيّ المستحدث للأحوال الشخصيّة من أجل تولـّي المسائل المتعلـّقة بالوساطة العائليّة والإدارة اللّاعنفيّة للنزاعات الأسريّة وحالات الاستماع إلى الأطفال وما سواها من القضايا الناجمة عن تطبيق هذا القانون. وتكون جلسات الاستماع والوساطة سريّةً ومحدّدةً عدديًّا، سواءً أكانت بين الزوجين أمْ مع الأطفال.

كما يُمكن لأحد الزوجين أو لهما معًّا، وعلى نفقة أحدهما أو الاثنين معًا طلب الاستعانة بخبير في الوساطة العائليّة وعلم نفس العائلة والحياة الزوجيّة من خارج المِلاك إذا اقتضى الأمر وبِعِلْم المحكمة. وعلى المحكمة توفير الوسائل المناسبة للزوجين أو الأطفال من ذوي الحاجات الخاصّة والمعوّقين خلال جلسات الوساطة والاستماع.

وهكذا، تكلّمنا عن الوساطة القضائيّة والوساطة الخصوصيّة، ويمكن القول إنّنا نستطيع تطبيقهما مباشرةً من دون اللجوء إلى أيّ إجراءات قانونيّة معقّدة، إلاّ أنّ هذا الأمر وهذا يتطلّب إرادة قويّة بإرساء نظام الوساطة العائليّة كنظام بديل لحلّ الخلافات الزوجيّة.

وبَعدُ، سنبحث في الفقرة الثانية نتكلّم عن الإحصائيّات الناتجة من تطبيق الوساطة كوسيلة بديلة لحلّ الخلافات. 

 

الفقرة الثانية: إحصائيَّات عن اعتماد الوساطة في بعض البلدان:

تُشير الإحصائيّات الّتي أُجريَت في مجال وساطة الأعمال إلى إحراز درجة عالية من النجاح تتعدّى الـــ 80%، أي أنَّ 80% من النزاعات الّتي تُحال إلى الوساطة تتمّ تسويتها ودّيًا، وعليه فقد صارت الوساطة عمليّة ناجحة للغاية تُوَصِّل إلى تسوية ودّية للنزاعات. 

ففي فرنسا، أعلنت نقابة المحامين في باريس العام 2013 سنة الوساطة. وتكمن أهميّة هذا الحدث في اختيار الوساطة من بين سائر وسائط فضّ المنازعات التجاريّة لتكون محور اهتمام العاملين في الأوساط القانونيّة والتجاريّة. طبعًا، هو خيار يحمل أهل القانون كما رجال الأعمال على منح الوساطة الأولويّة للتوصُّل إلى حلول ودّيّة للنزاعات، ويُظهر الموقع المميّز الّذي يحتلّه اليوم عامل التوسّط في تسوية النزاعات، مُتقدّمًا على خيارات المفاوضات والتوفيق والتسويات والتحكيم.

أمّا في الأردنّ فقد حقَّق مشروع برنامج الوساطة في محكمة "بداية عمّان" في قصر العدل نجاحًا كبديل فعّال للتقاضي في المحاكم. وتُشير الإحصائيّات إلى تحسُّن ملحوظ في الإحالة. فقد تمّ منذ حزيران 2007 حتّى أيّار 2008 إحالة 647 قضيّة إلى الوساطة، وتمّ الفصل في هذه القضايا في الوقت المناسب. وتُظهر الإحصائيّات أنَّ العديد من قضايا الوساطة تمّ الفصل فيها. كما تؤكّد الإحصائيّات أنّ معدّلات رضا الجمهور عن عمليّة الوساطة والبرنامج مرتفعةً. وعلى الرغم من نجاح البرنامج، إلّا أنّ الوساطة في المحاكم تقتصر على الوساطة القضائيّة .

ونلاحظ الامر عينَه، في المغرب، إذ كان لصنيع المشرّع المغربي، باعتماده الصلح كقاعدة جوهريّة ووسيلة أساسيّة لتحقيق إصلاح ذات البين بين أفراد الأسرة المغربيّة، الأثر الايجابيّ في التقليل من نسبة الطلاق والتطليق بصفة عامّة، والعمل على لمّ شمل الأسرة وحمايتها من الفرقة والتفكُّك والشتات. كلّ هذا من أجل تحقيق الأهداف النبيلة المسطّرة في مدوّنة الأسرة، والَّتي جاءت نتيجة حوار اجتماعيّ وقانونيّ عميق بين مختلف مكوّنات المجتمع، وحقّقت ملاءمة ومزاوجة متميّزة وفريدة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحفاظ على الهويَّة والانخراط في الكونيّة، سعيًا إلى تماسك الأُسرة واستقرارها في أداء دورها الأساسيّ لبناء كيان أفراد المجتمع.

هذا، وتُعتبر الوساطة أسلوبًا حديثًا ومفهومًا جديدًا أدخله المشرع الجزائريّ في قانون الإجراءات المدنيّة والإداريّة في الموادّ 994 إلى 1005 في الفصل الثاني تحت عنوان: في الوساطة من الباب الأوّل المتعلِّق بالصلح والوساطة من الكتاب الخامس في الطرائق البديلة لحلّ النزاعات.

وبعد أن تحدّثنا في البند الأوّل عن الوساطة الاتِّفاقيّة وتطبيقها في بعض البلدان الأجنبيّة والعربيّة، نُلقي الضوء في البند الثاني على الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة، وفقًا للآتي:

 

البند الثاني _ الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة

أشرنا في القسم الأوّل من بحثنا الراهن إلى اختصاص كلّ من المحاكم الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة في البتّ بالنزاعات الزوجيّة، وبما أنّنا ألقينا الضوء على كلّ من المحكمة المارونيّة ومحكمة جبل لبنان للروم الأرثوذكس، وبما أنَّ لجوء الزوج أو الزوجة للمحكمة المارونيّة لا يكون مباشرةً، بل يُوجبُ مثلًا أنْ يُقدّم طلب اللجوء إلى المحكمة بواسطة المطرانيّة التابع لها الزوجان، وكون الأخيرة هي التي تنظر في الطلب، أيّ إمّا أن تُحيله إلى المحكمة مباشرةً من دون الاستماع إلى الزوجين وإمّا أنْ تحيل الأخيرَين إلى مركز للإصغاء مُستحدث لديها. انطلاقًا من كلّ هذا، سنبحث في أمر هذه المراكز وفقًا للآتي:

الفقرة الأوّلى: مراكز للإصغاء:

إنّ التحدّي المطروح على الكنيسة اليوم، بمؤسّساتها ورعاياها وعائلاتها الملتزمة، يكمن في إعداد راعويّة خاصّة لتنشئة شبيبتها على مفهوم سرّ الزواج، ومرافقة العائلات الناشئة عن قرب للحدّ من أخطار التفكُّك، ومواجهة الصعوبات الناجمة عن المشاكل العائليّة.

ثُمَّ إنَّ البند الثالث من القانون 783 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة نصّ على ما يلي: "بعد الاحتفال بالزواج، على رُعاة النفوس أنْ يمدّوا المتزوّجين بعونهم، حتّى إذا صدقوا الأمانة لعهد الزواج وثبتوا على ذلك يتوصّلون يومًا فيومًا في عائلاتهم إلى أنْ يعيشوا حياةً أكثر قداسةً وأوفر ثمارًا."

فالمتزوّجون الجدُد وإنْ كانوا قد خضعوا قبل الزواج لمرحلة تهيئة فإنّهم لم يكونوا قد التزموا بعد التزامًا كاملًا بوحدة الحياة الزوّجيَّة وما تفرضه من مساكنة دائمة ومشاركة واقعيّة لهموم الحياة الزوجيَّة والعائليَّة. وقد توسّع البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني في مسألة العناية الرعويّة بعد الزواج من خلال إرشاده إلى وظائف العائلة المسيحيّة، وأوضح أنّها تتعلّق "خاصّةً بالعائلات الجديدة الّتي تعيش في جوّ جديد من القيم والمسؤوليّات الجديدة، إذ يمكن تتعرّض في أولى سنوات الزواج على الأخصّ، للصعوبات، كتلك الّتي تنشأ عن التكيُّف مع الحياة المشتركة وولادة البنين" (عدد 69). هذه المساعدة تتمّ بصورة خاصّة من خلال الأزواج الّذين اختبروا منذ زمن بعيد الحياة الزوجيّة والعائليّة"، أي من خلال شهادة حياة هذه العائلات المسيحيَّة الهادفة إلى نشر القيم المسيحيَّة السامية والّتي هي غاية كلّ خدمة رعويّة في قلب العائلة الجديدة لكي تسير بخطى ثابتة نحو حياة مسيحيّة أكثر قداسة وامتلاءً. كما أنّ الكنيسة تُقدّم للعائلات الجديدة خدمتها الرعويّة وعنايتها اللازمة "لكي تُربّي هذه العائلات خاصّة على العيش في حبّ زواجيّ معروف بوعي للمسؤوليّة الّتي تفرضها المشاركة وخدمة الحياة. فالمحافظة على الأمانة الزوجيّة وصيانتها من كلّ خطر هما أساس كلّ سعي لتعميق الاتِّحاد الزوجيّ وغايته، ويُشكِّلان المعيار الصحيح لنجاح الحياة الزوجيّة ونموّها". ( يُراجع في هذا الخصوص، ندوات مجلّة قوانين الكنائس الشرقيّة لعام 1992، ص 47).   

وقد جاء في المجمع البطريركيّ المارونيّ ( توصية رقم 4 فيما يتعلّق بالعائلة المارونيّة ) على إنشاء "مركز للإصغاء" في كلّ أبرشيّة، وبالتنسيق معه يعمل كهنة الرعايا على مواكبة العائلات نحو خيرها ونجاحها، ويُعنى هذا المركز بالمهام الآتية:

أ) تأمين الإرشاد الروحيّ والاستشارات القانونيّة والاجتماعيّة والطبيّة.

ب) الإصغاء إلى مشاكل الأزواج والعائلات المعرّضة للانقسام، والتعاوُن على إيجاد الحلول الملائمة لها.

ت) إعداد أشخاص مُؤهَّلين للقيام بهذه المهام.

وتفعيلًا لما جاء في المجمع البطريركيّ أُنشئَت مراكز للإصغاء في عدّة مطرانيّات، كمطرانيّة بيروت ومطرانيّة جبيل ومطرانيّة أنطلياس ... . وفي هذا المجال نُلقي الضوء على مركَزين اثنَين من خلال الحديث عن أهداف وآليّة عمل كلّ منهما، وذلك وفقًا للآتي:

1 _ مركز مطرانيّة جبيل:

    نذكر من أهداف هذا المركز ما يلي:

  • مواكبة العائلات الجديدة لخيرها ونجاحها.
  • الإصّغاء إلى مشاكل الأزواج والعائلات، والتعاوُن في سبيل إيجاد الحلول الملائمة لها.
  • تقديم الإرشادات الروحيّة والاستشارات القانونيّة والاجتماعيّة والطبّيّة.
  • مرافقة العائلات للحفاظ على سعادتها واستقرارها وسلامها.

آليّة العمل:

_     التعاوُن مع كاهن الرعيّة لمساعدته في مرافقة عائلة متعثّرة منذ اكتشاف الحالة.

_ استقبال العائلات في المركز.

_ توجيه الحالات نحو الأخصّائيّين المعنيّين.

_ التواصُل مع كاهن الرعيَّة للرعاية والمرافقة.

_ تقديم تقرير مفصّل لسيادة راعي الأبرشيّة عن الحالات التي رافقها المركز، تِباعًا.

تطلُّعات:

_ التعاوُن الوثيق مع مركز الإعداد للزواج من خلال تخصيص لقاءٍ في آخر كلّ دورة، بهدف تعريف الخطّاب على لجنة العائلة ومركز الإصغاء كهيكليّتين متوافرَتين لخدمة العائلة في الأبرشيّة.

_ التعاوُن الوثيق والمبكر مع كهنة الرعايا، لتوجيه العائلات إلى مركز الإصغاء مع بدء المصاعب، منْعًا من تفاقمها.

_ حماية الأولاد من الأضرار الناجمة عن النزاعات الزوجيّة.

 

       2 _ مركز الإصغاء "معًا" التابع لأبرشيّة بيروت:

إنّ مركز «معًا»  للإصغاء والمرافقة هو مركز كنسيّ تابع لأبرشيّة بيروت المارونيّة، يعمل ببركة وتوجيهات سيادة راعي الأبرشيّة. أَهَّل المركز أشخاصًا علمانيّين مؤمنين عبر دورات تنشئة متخصّصة في الإصغاء والمرافقة من أجل تحقيق هدفه ورسالته، كما أنّه يستعين بأشخاص ذوي خبرة واختصاص في الأمور الاجتماعيّة والنفسيّة والقانونيّة والروحيّة.

ماذا يفعل؟

يُودّي هذا المركز مهامًا كثيرةً، نذكر منها ما يلي:

أ) يستقبل المركز الأشخاص الّذين قبلوا سرّ الزواج أو الأشخاص الّذين عقدوا زواجًا مختلطًا في الكنيسة.

ب) يهدف إلى مرافقتهم حين يمرّون بصعوبات في حياتهم الزوجيّة والعائليّة، أو يواجهون تحديّات ممكن أن تؤثّر سلبًا في زواجهم.

ت) يسعى المركز إلى خَلْق جوّ من الثّقة بين المرافق وطالب المساعدة، وذلك من أجل التوصُّل إلى تحقيق رؤية واضحة تُمكنّهم من اتِّخاذ القرارات التي يرونها مناسبةً، لِعَيش حياة زوجيّة وعائليّة سليمة، واكتشاف سلام المسيح في قلب الحياة الزوجيّة والعائليّة.

ث) يحرص على الالتزام بالموضوعيّة وعدم التحيُّز.

ج) يُشدّد على مبدأ حفظ الخصوصيّة والسرّيّة حول لقاءات المرافقة والمعلومات والمعطيات التي تبحث فيها أو تنتج منها.

وبَعْدُ، تتوافر لدى الكنيسة الأرثوذكسيّة مراكز يخضع فيها الزوجان لأربع محاضرات، وتشمل النواحي اللّاهوتية وكيفيّة حلّ النزاعات وإرساء أُسس التواصُل والحوار.

تكلّمنا على مراكز الإصغاء التي تهدف إلى إعادة شمل العائلة عند نشوب الخلافات الزوجيّة وقبل تقديم الزوج أو الزوجة طلبًا أمام المحكمة الكنسيّة المختصّة بالطلاق أو بطلان الزواج، ولكنَّ الواقع المعاش أثبت أنَّ الزوجين لا يُؤمنان بأهداف ومراكز الإصغاء ويُفضِّلان متابعة دعاويهم أمام المحكمة الكنسيّة. وإنّ الدليل على عدم إيمان الزوجين بمراكز الإصغاء هو تزايد أعداد طالبي الطلاق وبطلان الزواج أمام المراجع الروحيّة الكنسيّة المختصّة. فتكون هذه المراكز لم تفلح في تحقيق أهدافها، الأمر الّذي يؤدّي بنا إلى وجوب تفعيل الوساطة القضائية كنظام بديل لحلّ الخلافات الزوجيّة.  

وفي هذا المجال، تأتي فكرة الوساطة القضائيِّة أمام المحاكم الكنسيّة التي نبحثها في الفقرة الآتية:

 

 الفقرة الثانية: استحداث مركز للوساطة القضائيّة:

أخذت بالوساطة القضائيّة معظم التشريعات التي تأخذ تعتمدها كحلٍّ بديل للنزاعات، مثل كالقانون الأمريكيّ أو الفرنسيّ، وعربيًّا أخذ بها القانون الأردنيّ، وتتمّ هذه الوساطة أمام جهات قضائيّة وعبر قضاة الصلح والبداية الّذين يتمّ اختيارهم من قبل رئيس المحكمة الابتدائيّة ويكلَّفون بهذه المهمَّة ويُطلق عليهم " قضاة الوساطة ". ثمّ إنّه من أجل اعتماد هذا النوع من الوساطة تمّ استحداث مقرّ للوساطة في المحاكم، وهو يضمّ مُؤهّلين ومُدرّبين على أعمال الوساطة، وتُناط بهم مَهمَّة الإشراف ومتابعة الأمور ذات العلاقة بالوساطة، كما تتمّ إحالة النزاع للوسطاء القضائيّين من طرف القضاة.

وبالرجوع إلى لبنان لا نرى مثيلًا لتلك الوساطة، إذ لا توافر لها، إنّما تتوافر نصوص قانونيّة قد تعتبر أو تمهّد لاستحداث وساطة قضائيّة أمام المحاكم الكنسيّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّه بعد إحالة الدعوى للمحكمة المارونيّة مثلًا فهي تُسجّل لدى قلم المحكمة تحت رقم خاصّ، ومن ثَمَّ تُحال إلى رئيس المحكمة، من أجل تعيين هيئة حاكمة للنظر في ما بعدها وتعيين جلسات ... .

وها نحن نُوردُ مختصرًا عن إجراءات المحاكمة الأوّليّة كما جاءت في كتاب الأب أنطوان راجح:" بعد تقديم عريضة فتح الدعوى والاستحضار، ومجاوبة المدّعى عليه على الادِّعاء، تصل المحاكمة إلى موضوع الخصومة، وهو يُشكّل مسألة جوهريّة، ينبغي أن تتّسم بالوضوح الكامل؛ لأنّ كلّ المحاكمة تدور على الإجابة عمّا يجيء فيه من نقاط مستخلصة من ادّعاءات المدّعي ومجاوبة المدّعى عليه.

وقبل البدء بتحديد الموضوع، على قاضي الأحوال الشخصيّة أن يعقد جلسة مصالحة يحاول فيها أن يذكّر الخصمين بضرورة التعالي على بعض الانفعالات أو تصحيح الزواج في حال بطلانه، وإذا لمس ترحيبًا ولو خفيفًا، عمّق محاولته وأخذ وقتًا كافيًا لها. ولهذه الغاية، تكون الوقائع حاضرة في ذهنه ويتداول فيها مع الزوجين. فمن حقّ المؤمنين أن يجدوا في القاضي عدالة الله الّذي يحاول دومًا أن يداوي ويشفي ويغفر. أمّا إذا رفض أحدهما المصالحة رفضًا قاطعًا فينتقل القاضي إلى تحديد موضوع النزاع، وهو لا يُحدّد موضوع الدعوى فحسب، بل سببها أو أسبابها أيضًا. ( الأب الدكتور أنطوان راجح، أصول المحاكمات الكنسيّة في الدعاوى الزواجيّة (الكاثوليكيّة) منشورات صادر ص 130).    

كما أنّ كلّ قوانين الأحوال الشخصيّة للطوائف الأرثوذكسيّة تُعطي المحكمة - ناظرة النزاع - إجراء الوساطة والتوفيق بين الزوجين المتنازعَين، وإنّنا نورد الموادّ القانونيّة وفقًا للآتي:

1 _ تنصّ المـادّة 21 من  قانون الأحوال الشخصيّة وأصول المحاكمات لدى بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس على ما يلي: "للمحكمة أنْ تُقرِّر حضور المتنازعَين بالذات وحدهما، بُغية الوقوف على الحقيقة والسعي للتوفيق بينهما، ولها أنْ تُقرِّرّ استجواب المتنازعَين من دون حضور الوكلاء."

2 _ تنصّ المادّة 16 من الباب الرابع من قانون الأحوال الشخصيّة وأصول المحاكمات لدى طائفة الأقباط الأرثوذكس في لبنان على ما يلي: " للمحكمة أنْ تقرِّر حضور المتداعين بالذات وحدهم، بُغية الوقوف على الحقيقة والسعي للتوفيق بينهما."

3 _ تنصّ المادّة 182 من قانون الأحوال الشخصيّة  للطائفة الشرقيّة الأشوريّة الأرثوذكسيّة في لبنان على أنّه: "للمحكمة أنْ تُقرِّر حضور المتداعين بالذات وحدهما، بُغية الوقوف على الحقيقة والسعي للتوفيق بينهما .

وإثباتًا لما ورد أعلاه وخاصّة بشأن التوفيق والمصالحة، فقد أفاد الأب إبراهيم سعد في مقابلة أجرتها معه جريدة السفير بأنّه: "تمّت مصالحة الزوجين والعودة إلى الحياة الزوجيّة المشتركة في /13/ دعوى كانت معروضة أمام المحكمة الأرثوذكسيّة في جبل لبنان".

إذًا، للقاضي أن يفسح في المجال للمصالحة من دون فرضها، وتشجيع المتنازعين على سلوكها في بعض الظروف بالنسبة إلى العلاقات الزوجيّة والعائليّة. وتفترض المصالحة حَمْل كلّ فريق على التضحية بجزء من طلباته لإحلال الوفاق بين المتخاصمين وتخفيفًا من الآثار السلبيّة الّتي يتركها كلّ نزاع في نفوسهم حتّى بعد فصله نهائيًّا.

وفي الصين تقليد عريق يعتبر أنّ فضَّ النزاعات بين الأفراد بالطرائق السلميّة هو مفضّل على الحلول القضائيّة، ومن غير المستحبّ اللجوء إلى القضاء. وكما رأينا، إنّ المحاكم الروحيّة الكنسيّة تُعطي المصالحة مجالًا ضيّقًا نوعًا ما لإحلال الوئام بين ركني العائلة الّتي تبقى الركيزة الأساسيّة لاستقرار المجتمع وديمومة الأوطان. 

واستنادًا إلى النصوص القانونيّة الوارد ذِكْرُها أعلاه، وإيمانًا بقدسيّة عمل الوساطة بين الزوجين المتنازعَين فإنّه يتوجّب على المحاكم الكنسيّة استحداث مراكز للنهوض بالوساطة في كلّ محكمة كنسيّة، وتعزيزها بالموارد البشريّة وتقوية قدراتها في هذا المجال، ومنحها الإمكانات اللوجستيّة، والاعتراف القانونيّ بدورها في مجال الوساطة العائليّة، وإدراج الوساطة العائليّة ضِمن القوانين المرعيّة الإجراء.

والجدير بالاهتمام ينبغي تأسيس مراكز الوساطة القضائية في لبنان، على أساس أنْ يجريها وسطاء متخصِّصون في المجال، يُفَضَّل أن يكونوا خرّيجي معاهد متخصّصة، تدرّبوا فيها على أيدي خبراء، من شأنهم أنْ يمنحوهم تكوينًا كافيًا في هذا المجال، كما هو معمول به في تجارب دول أوروبيّة، حيث إنّ اللجوء إلى الوساطة أضحى مُتقدِّمًا، يلجأ إليها كوسيلة اختياريّة لحلّ النزاع.

هذا، ويجب أنْ تُنظّم مراكز الوساطة القضائيّة تنظيمًا مهنيًّا عاليًا، على أن يُدير جلسة الوساطة "قاضٍ وسيط"، قادر على تدبير النزاعات الأسريّة، يتّصف بمجموعة من المواصفات، منها القدرة الكبيرة على الاستماع والحوار. ولا مانع مِنْ أن يكون الوسيط قاضيًا أو محاميًا أو مُعالجًا نفسانيًّا، أو جمعيّة متخصِّصة في مجال الوساطة.

وتزداد أهميّة استعانة المحكمة بمؤسّسة المساعدة الاجتماعيّة القضائيّة، باعتبارها مؤهّلة لإصلاح ذات البين بين الزوجين والأبناء، وتسوية النزاعات الأسريّة، وإجراء الصلح بتقنيّة الوساطة، لكونها تكتسي طابَعًا خاصًّا، وتتعلّق بعلاقات ذات حساسيّة وخصوصيّة تقتضي الكثير من الكتمان والسريَّة والحكمة والتروي في معالجة جوانب منها، كونها على درجة من التعقيد، وتتميّز باختلاف طبائع الناس والتقاليد والمحيط الّذي نشأت فيه أطرافها إضافةً إلى تداخُل ما هو قانونيّ واجتماعيّ ونفسيّ في النزاع. ويجب الالتفات إلى العاملين في هذا المجال، من خلال تمكينهم من أدوات العمل وظروف الاشتغال، التي تساعدهم على أداء واجبهم.

إنّ تأسيس مراكز للوساطة القضائية ضمن المحاكم الكنسيّة في لبنان هو إجراء بمنتهى السهولة ويمكن تطبيقه فورًا بعد قرار يؤخذ من السلطات الروحيّة المختصّة، وفي هذا الإجراء حماية للعائلات من التفكُّك وإمكانيّة إعادة الزَوجين إلى رشدهما وإصلاح ذات البين بينهما. فعسى أن تهتمّ الجهات المعنيّة بهذا الموضوع وتعمل على تنفيذه وفاق المقترحات الّتي قدّمنا لها في هذا البحث.

 

 

الخاتمة

إنَّ الوساطة الّتي سلّطنا الضوء عليها ما هي إلّا نموذج عريق في القدم أردنا إحياءَه وتفعيله وتنميته من جديد، فهي بنت الحضارات المختلفة الّتي عرفها ومارسها شيوخ قبائل وعشائر وزعماء حضارات قديمة وثقافات متنوّعة، من الشرق إلى الغرب ومن آسيا إلى أفريقيا، مرورًا بالعالم الإسلاميّ والعربيّ، وصولًا إلى عالم اليوم. كانت على مرّ التاريخ، لغة العدل ووسيلة الحفاظ على السّلم الأهليّ وانسجام المجتمعات. وتكمن قوّة الوساطة في كزنها عابرة للقارّات والثقافات والحضارات واللغات والعادات والتقاليد.

وبَعْدُ، إنَّ من السمات البارزة للحضارة الحديثة شيوع القلق والحيرة والارتباك والارتياب بين الناس، فيشعر الفرد بأنَّه منبوذ ومهجور في عالم يستغلّه ويغشّه ويخدعه، في بيئة حضاريّة تُشعره بالعزلة والعجز وقلّة الحيلة، في عالم عدائيّ يغشاه من كلّ جانب، والحضارة هذه هي الّتي شجَّعت التنافُس المسعور بين الناس، وأوهنت روابط الأُسرة، وجعلت كلّ إنسان يعيش لنفسه. فهي في جملتها حضارة مادّة وهَوَس وسُرعة وتوتُّر وضجيج، احتدم فيها الصراع والنزاع وكثُرت القضايا بردهات المحاكم وامتلأت السجون في غياب الوسائل البديلة لحلّ النزاعات من دون اللجوء للتقاضي، وضعفت ثقافة إصلاح ذات البين بين الناس،  وتمّ التخلّي عن العادات والتقاليد في مجال الصلح والوساطة بين الأطراف والتضامن المجتمعيّ والتكافُل الاجتماعيّ، فازداد اللجوء للقضاء.

لا شك في أنّ موضوع الزواج والحياة العائليَّة سوف يحظى باهتمام كبير في الأيّام المقبلة. فتجديد الحياة المسيحيَّة ليس مجرّد مسألة تنظيميَّة، إنّما هو مسألة رعاية موضوعها هو الشخص البشريّ وما له من بُعد حميميّ يظهر خاصّة في الحياة الزوجيّة. فإذا ما عرفنا نحن أساقفة وكهنة، رهبانًا وراهبات، عائلات وجمعيّات وعلمانيّين كيف نرعى الزواج والنزاعات الزوجيّة، هذا المحور الاساسيّ في حياة الانسان، حينذاك نجدّد كنيستنا ونرقى بالإنسان الّذي فينا إلى مستوى كرامته الّتي ألبسه إيّاها الله الخالق.

هذا، وتؤكّد النتائج والإحصائيّات ارتفاع عدد قضايا الطلاق أو بطلان الزواج في لبنان بصورة مخيفة ومتزايدة، ممّا دفع المجتمع المدنيّ وأطراف النزاع إلى التفكير في نظام بديل من العدالة الرسميّة أو عدالة المحكمة، فكان اللجوء إلى العدالة الاتِّفاقيّة أو العدالة الاختياريّة أو العدالة الرضائيّة أو الفاعلة المتحرّرة من النصوص الجامدة والإجراءات المعقّدة والآجال المقيّدة إلى المصلحة الواقعيّة لطرفي النزاع، حيث إنَّ مميّزات العدالة التصالحيّة هي: السرعة وقلّة التكلفة والجهد والتفاؤل في الوصول إلى حلّ اتفاقيّ أو صلح بين الطرفين مريح لا يبرز فيه مركز غالب أو مغلوب بشكل واضح؛ ومن حسنات العدالة التصالحيّة أو قاعدة إصلاح ذات البين بين الزوجين المتنازعين، قضائيًّا، هو ضمان تواصُل مقنّن ومُنصف يعتمد في منهجيّته على قاعدة خدمة مصلحة الأبناء عند وجودهم، وذلك في حالة الإصرار على إنهاء العلاقة الزوجيّة وتجنيب الطرفين القطيعة العدائيّة بينهما في كلّ الأحوال.

ثُمَّ إنَّ تفعيل الوساطة الاتفاقيّة أو القضائيّة يُشكِّل تحدّيًا، وفيه ضمان الحصول على الفائدة القصوى من برنامج الوساطة، وهو تقليص الطلب على المحاكم، وإصلاح ذات البين بين الزوجين المتنازعَين.

فأين حَمَلَة الأقلام تتبارى في هذا الميدان؟

 

                                                   المحامي جوزف أنطوان وانيس

                                                   محامٍ بالاستئناف

                                                   دراسات عُليا في القانون الخاصّ

 

 

فهرس المراجع

 

1 _ خاطر، نزيه، عباسيّ، صلاح، عهد الزواج، دار منهل الحياة، لبنان، 1996.

 

2 _ راجع، أنطوان (الأب)، أصول المحاكمات الكنسيّة في الدعاوى الزواجيّة، دار صادر، بيروت، 2003 .

 

3 _ المجمع البطريركيّ المارونيّ، النصوص والتوصيّات، 2006.

 

4 _ مجموعة مؤلِّفين، شروحات قوانين الكنائس الشرقيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 2005.

 

5 _ منشورات الكسليك، ندوات مجلّة قوانين الكنائس الشرقيّة، المطبعة البولسيّة، لبنان، 1992.

 

6 _ ج السفير، ع 12-8-2009.

 

7 _ النشرة البطريركيّة الأرثوذكسيّة، ع 7، 2006.

 

 

 

 

 

 

 

الفهرست

المقدّمة                                                                              3

القسم الأوّل - المحاكم الكنسيَّة والنزاعات الزوجيَّة ووسائل معالجتها                        4

الفصل الأوّل - المحاكم الكنسيَّة                                                          5

البند الأوّل - المحاكم الكاثوليكيّة                                                   6

الفقرة الأولى: الكنائس الشرقية الكاثوليكيَّة                                               6

الفقرة الثانية: المحكمة المارونيّة                                                                 7

البند الثاني - المحاكم الأرثوذكسيّة                                                        10

الفقرة الأولى: الكنائس الأرثوذكسيّة                                                      10

الفقرة الثانية: محكمة جبل لبنان للروم الأرثوذكس                                      12

الفصل الثاني - الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة ووسائل معالجتها                       13

البند الأوّل - الزواج الكنسيّ والنزاعات الزوجيّة                                              14

الفقرة الأولى: مفهوم الزواج الكنسيّ                                                     14

الفقرة الثانية: النزاعات الزوجيّة                                                                 16

البند الثاني - وسائل المعالجة                                                             20

الفقرة الأولى: المراحل الخمس التي يمرّ بها الزواج                                                  20      

الفقرة الثانية: المبادئ العامّة معالجة النزاعات الزوجيّة                                        22

القسم الثاني - مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها وأنواعها                                   26

الفصل الأوّل - مفهوم الوساطة الزوجيّة وقواعدها                                     27

البند الأوّل - مفهوم الوساطة الزوجيّة                                                    28

الفقرة الأولى: الوساطة بمفهومها العامّ                                                          28

الفقرة الثانية: مفهوم الوساطة الزوجيّة                                            29

البند الثاني - فوائد ومميّزات وقواعد الوساطة الزوجيّة                                        31

الفقرة الأولى: فوائد ومميّزات الوساطة الزوجيّة                                               31

الفقرة الثانية: قواعد الوساطة الزوجيّة ودور الوسيط                                          33

الفصل الثاني - أنواع الوساطة الزوجيّة                                                        39

البند الأوّل - الوساطة الزوجيّة خارج إطار المحاكم الكنسيّة                                  40

الفقرة الأولى: الوساطة الاتفاقيّة                                                          40

الفقرة الثانية: إحصائيّات                                                           43

البند الثاني - الوساطة الزوجيّة أمام المحاكم الكنسيّة                                           45

الفقرة الأولى: مراكز الإصغاء                                                           45                       

الفقرة الثانية: استحداث مركز للوساطة القضائيّة                                               49

الخاتمة                                                                                      53

فهرس المراجع                                                                            55

ADMIN

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment