التبويبات الأساسية

التفكير والثورة

التفكير والثورة

التفكير والثورة

بقلم الدكتور جورج شبلي

يعتبر علم النفس المعرفيّ أنّ التفكير هو أعلى الوظائف الإدراكيّة، لأنّه يحيط بكلّ العمليّات الذّهنيّة التي يؤدّيها العقل، ويقيم على أساسها مبادئ نهجه الفكريّ. والتفكير نوعان، أوّلهما التفكير المنطقيّ الناقد الذي يستند الى التعليل والتدليل ببيّنات مقنعة، للوصول إلى استنتاجات أو مواقف لا لبس فيها، وهذا هو التفكير المنظّم المنهجيّ. وثانيهما التفكير الهوائيّ أو تفسير الأمور وفقاً لما يرتاح إليه صاحبه أو يألفه، بمعزل عن مسارات التفكير العلميّ الموضوعيّ، فيصبح بالتالي الحكم على الأشياء نوعًا من التّخيّل أو انغماسًا في أحلام اليقظة، بعيدًا عن التفكير المستنير.

أمّا الثورة فهي فعل شعبيّ احتجاجيّ يهدف إلى إحداث تغيير جذريّ في بنية النّظام السّائد، أو هي حالة وعي ونضج تنطلق لحماية قيمة أو مجموعة من القيم تعرّضت للإنتهاك. وهي بذلك تختلف عن الإنقلاب الذي هو فعل منظَّم هدفه السيطرة على السلطة من خلال إزاحة الممسكين بها، للتحكّم بزمامها.

وإذا كانت فئات الشّعب تتولّى المبادرة في المواجهة للوصول بالثورة إلى تأسيس مرحلة تحترم الحريّة والعدالة وكرامة الإنسان، فإنّ مسار الإنقلاب تخطّط له قيادة توزّع الأدوار وتحدّد مسبقًا المراكز والأهداف بمعزل عن حتميّة الإصلاح الإيجابيّ.

بعد المقدّمة التي وضّحَت مفهومَي الفكر والثورة، أين يقف البعض عندنا ممّن يحمل كلامه دائمًا دهشة وابتكارًا لا يمكن توقّعهما؟

في أواخر الإطلالات، والإطلالات كثيرة، وجدنا أنفسنا أمام أصنام يلقون على أنفسهم ألقابًا باهتة، لكنّهم يخفون وراء قلّة هيبتهم التباسات فاضحة. فكلّ هبّة من هبّاتهم مرشّحة لأن توصف بالثورة، وهبّاتهم كثيرة، وتطرح تغييرًا شاملاً في البنى والوسائل، لكنّنا لا نعرف ريحهم إلى أين ستتّجه، وهل تقودنا لثورة فعليّة أم تروّج لانقلاب معروفٌ منحاه ومتوقّعٌ مرماه؟ فالثورة الشاملة التي يبشّرنا بها هؤلاء، إطلالتها نهضويّة أي تدعو للإصلاح وتفعيل موازين الحقّ والعدل، لكنّها تخفي ردّة فعل غَضَبيّة تسعى إلى انقلاب بالغ الخطورة، وكأنّهم يسترجعون ما قاله شمشون عندما هدّ الهيكل.

من هنا، فإذا كان "العقل" هو قوام الثورة، بمعنى الرويّة والوعي، فإنّ الهبّة الغاضبة لن تقود إلاّ إلى الفوضى وهدم الكيان وتسليم البلاد إلى ناشري الطّاعون والهواء الأصفر.

وإذا كانت الثورة قوّة ديناميكيّة ترسم علاقات جديدة بين مكوّنات المجتمع، أوليس من الضّروري اتّفاق هذه المكوّنات على استراتيجيّة واحدة وواضحة تزيل إمكان القضاء على مشروع الثورة بكامله؟ وهل خطاب الصنميّين "غير الفكري" والخالي إلاّ من عبارات التّهديد والتخويف والاستفزاز، يمكن اعتباره كفاحًا لحراك ثوريّ يحلم به النّاس، أو هو إحالة هذا الحلم على التّقاعد بالدّعوة لانقلاب يستبدل الفساد والظّلم بحكم أكثر فسادًا ينهي بالكامل قدرة الدولة على النهوض وامتلاك سيادتها؟

إنّ أفكار الصنميّين النيّرة قد مدّت سلاسل حول عنق الجمهوريّة الموعودة، ولم تزح الكتلة الصمّاء عن نظام الخوف الذي عيَّشوا اللبنانيّين في قبضته طويلاً. لقد ظنّ هؤلاء أنّهم واكبوا نبض الشّارع الغاضب، بالخطاب العاطفيّ الكلاميّ، وحرّكوا الحشود بإثارة الغرائز، لكنّهم لم ينتبهوا إلى أنّهم أيقظوا القلق بكلامهم المشبوه الذي ظاهره دعوة ضدّ الفساد وباطنه أنانيّة لا يُتَنازل عنها. وقد صحّ فيهم ما قيل: هل يُستخرج العسل من المرّ؟

وبعد، يرشد علم النفس الإدراكيّ أصحاب الفكر الهوائيّ إلى تقريب المسافة بين العقل والصّوت، وهذه النّصيحة تعني، عمليًّا، تركيب رقبة طويلة "زَرافيّة" يعبر الكلام فيها على مهل، قاطعًا غربالًا  تلو  غربال، ليضمحلّ ويتبخّر في أغلب الحالات، قبل أن يصل الى خواتيمه فوق عضلة اللسان. اللهمّ نجِّنا من الهوائيّين، إنّك نبيلٌ في عون المتضرّعين إليك.

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment